2
سلسلة السيرة النبوية
من هنا بدأ الإسلام

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

◄الحكمة في اختبار جزيرة العرب منطلقا للرسالة
هناك سؤال قد يستغربه البعض:
 - لماذا ينزل الوحي في مكة؟ 
- و لماذا تحدث قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية؟
- ولماذا لم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في فارس أو الروم، أو في فلسطين مثل بقية الأنبياء، أو في مصر مثل سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام؟  

من حكمة الله جل وعلا البالغة أن اختار جزيرة العرب لتكون مهبط الوحي لخاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن جزيرة العرب توفرت فيها أسباب سهلت استقبال هذا الدين وساعدت في انتشاره , نشير الى بعض ما يسر الله لنا فهمه وهو كالاتي : 
⬼ وذلك لأن العرب أمة لم تعرف ديناً من قبل سوى ملة إبراهيم، 
⬼ وذلك لأن العرب لم يصلها من حضارات وفلسفات الأمم من حولها شيء، فحافظت بذلك على وحدة المصدر المتلقى عنه، دون أن تضيف إليه شرائع وأحكام وقوانين البشر، 
⬼ وذلك لخلو بقعة الرسالة في الجزيرة من الجيوش أو الملوك مما لم يتح المزيد من قمع الدعوة في مهدها، وساهم في صنع الأحلاف لدولة الإسلام مع غيرها، وجعل الدعوة تتمكن من بناء جيش الإسلام.
⬼ وذلك لأن شبه الجزيرة العربية تقع وسط العالم القديم وعلى طرق التجارة العالمية البرية والبحرية فتصل الجزيرة العربية بالصين و الهند و شمال افرقيا وشرق اروبا وغرب أسيا مما قد يسهل انتشار الدعوة عبر العالم .
⬼ وذلك لأَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ لله وُضِعَ لِلنَّاسِ، أَيْ: لِعُمُومِ النَّاسِ: لِعِبَادَتِهِمْ، وَنُسُكِهِمْ، يَطُوفُونَ بِهِ، وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، وَيَعْتَكِفُونَ عِنْدَهُ لَلَّذِي بِبَكَّةَ، يَعْنِي: الْكَعْبَةَ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وذلك لقوله تبارك وتعالى: 
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ۝ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران:96- 97].

الحكمة من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب

كل نقطة  في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحساب، كل شيء مقصود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل قدوة لكل المسلمين إلى يوم القيامة، فلابد أن تكون كل خطوة في هذه الشخصية محسوبة تماماً.

كان الوضع في جزيرة العرب هو الوضع المناسب لقيام الدعوة الإسلامية, فالبيئة التي نشأت فيها الرسالة كانت بيئة صالحة لهذا الامر، وقد رأينا فعلا كيف أن الإسلام انتشر بسرعة في الأرض، ففي غضون سنوات قليلة لا تحسب في التاريخ بشيء وصل الإسلام إلى أبعد الحدود. فما هي المقومات التي أنجحت رسالة الإسلام؟.

1👈خلو العقل العربي في الجزيرة من المؤثرات الخارجية و الأفات الفكرية

أول حكمة تتبدى في ذلك الأمرأن هذه المنطقة ليس لها تاريخ ثقافي يذكر، ولا فلسفات سابقة، أو تشريعات مركبة، أو قوانين مفصلة، بل حياة بسيطة إلى أبعد درجات البساطة - على عكس الحضارات المعاصرة التي كانت لها أفكار مرتبة وفلسفات خاصة وتاريخ طويل.
 

💨 - فالدولة الرومانية الغربية والشرقية كانت فيها قوانين كثيرة، وتشريعات في معظم المجالات، وكان بها ظلم وقهر وبطش شديد.

واليونان كانت جزءاً من الدولة الرومانية الشرقية، وكانت فيها فلسفات كثيرة قوية، وظهر فيها فلاسفة كبار، أمثال: أرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم.
فمثلا عرفت الفترة البزنطية قوانين كانت استمرارا للقانون الروماني فكان هناك:

- مخطوط ثيودوسيوس عام 438، والذي يتكون من 16 كتاب، يحتوي على جميع القوانين التي تم سنها منذ عهد قسطنطين الأول حتى تاريخه.

- مدونة جستنيان أو مدونة القانون المدني، هو الاسم المعاصرلمجموعة من الأعمال الأساسية في الشريعة، صدرت من 529 حتى 534 بأمر من جستنيان الأول، الامبراطور الروماني الشرقي

💨- والدولة الفارسية ظهر فيها مزدك صاحب الشيوعية وزواج المحارم، وظهر فيها زرادشت صاحب النار.ولقد ضمَّن زرادشت تعاليمه في كتاب مقدس دعاه «أُفستا»، وهو الكتاب الذي آمنت به غالبية الفرس حتى مطلع الفتح الإسلامي (635 -642م).

💨- والهند كان فيها حكماء كثيرون جداً كما يقال.

💨والصين ظهر فيها بوذا وكونفوشيوس ولاوتسو.

كانت البوذية في الأصل حركة رُهبانية نشأت داخل التقاليد البراهمانية، تحولت عن مسارها عندما قام بوذا بإنكار المبادئ الأساسية في الفلسفة الهندوسية، بالإضافة إلى رفضه وِصاية السُلطة الكَهنوتية، وكذا مظاهر وطقوس عبادة الآلِهات التي كانت تقوم عليها. 

💨- ومصر كان فيها الفراعنة وتاريخهم طويل وقديم وقوي، وعندهم أيضاً قوانين وتشريعات وأحكام.

ولقد أخذ اضطهاد المصريين صورة منظمة في عهد الإمبراطور سفروس(193_211م) 
ثم بلغ ذروته القصوى في حكم الإمبراطور دقلديانوس (284-305م) فقد رغب هذا الإمبراطور أن يضعه رعاياه موضع الألوهية، حتى يضمن حياته وملكه، فقاومه المسيحيون في ذلك، فعمد إلى تعذيبهم، فصمد المصريون لهذا الاضطهاد بقوة وعناد ، وقدمت مصر في سبيل عقيدتها أعدادا كبيرة من الشهداء مما حمل الكنيسة القبطية في مصر أن تطلق على عصر هذا الإمبراطور (عصر الشهداء).

صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر


 ومع هذا نزلت الرسالة في مكان يعتبر تقريباً بلا تاريخ ثقافي، اللهم الشعر، لكن حتى الشعر لم يكن له دور فعال في بناء الأمة الإسلامية، ولم يكن ذا أهمية خاصة في إنشاء الأمة الإسلامية على الأقل في البداية، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف نظم الشعر على بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم.  وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] .
كل هذا من أجل نقاء الرسالة، وحتى لا تختلط بأفكار سابقة، ثم يقال: إن الإسلام مجرد تطور للمعتقدات السابقة.

فـ كونفوشيوس أو بوذا أو سقراط أو غيرهم من الفلاسفة لهم معتقدات معينة، وقواعد خاصة وضعوها منذ مئات السنين، بعضها قد يحض على معنى معين حض عليه الإسلام أيضاً، بشيء من الاختلاف أو التغيير، كالصدق، أو الزهد في الدنيا، أو الأمانة،  وقد يعتقد البعض أنها مجرد تطور لأفكار سقراط أو بوذا أو غيرهما، وهذا ما قاله بعض المتطاولين على الإسلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً عن هؤلاء الفلاسفة، وما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، فما بالكم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة مليئة بالفلاسفة وبالثقافات القديمة؟ 
ثم أيضاً قد تتسرب بعض هذه الأفكار إلى الإسلام دون دراية المسلمين بذلك، فقليلاً قليلاً يختلط الصواب بالخطأ، ويختلط الحق بالباطل، فإن قواعد الجاهلية التي كانت مترسخة في الناس أخذت مجهوداً ضخماً من الإسلام؛ لكي يلغيها من أذهان الناس، فمثلاً: عادة التبني، لكي يلغيها الإسلام حصلت القصة المشهورة من طلاق زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه للسيدة زينب بنت جحش، ثم زواج الرسول صلى الله عليه وسلم منها.

وتخيل لو أن هذا البلد مليء بتشريعات وقوانين وفلسفات، كيف سيصبح الوضع؟ فربنا سبحانه وتعالى يريد للرسالة أن تكون نقية تماماً، ليس فيها أي خلط بأي أفكار أخرى، 

وربما من أجل هذا أيضاً ما نزلت الرسالة في فلسطين، فلو نزلت فيها الرسالة فستبقى مجرد امتداد لليهودية أو النصرانية، نعم، أصول التوحيد واحدة، لكن الإسلام أتى بتشريع كامل متكامل يحكم الدنيا والدين.
إن الله سبحانه وتعالى أراد للرسالة الخاتمة أن تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حتى لا يدعي بعض المدعين على الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخذ التوراة والإنجيل وحرف فيهما قليلاً، واستخرج منهما الإسلام.
لفد ادعى بعض أهل مكة أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتلقى هذه الآيات من غلام نصراني، فكيف لو نزلت الرسالة في بلد مملوء بأهل التوراة والإنجيل مثل فلسطين؟ 

لذلك نزلت هذه الرسالة في مكان ليست فيه بالفعل أي نوع من الثقافات السابقة أو القوانين أو التشريعات، كل هذا من أجل أن يبقى الدين في النهاية نقياً خالصاً:
 { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر:٣].

لقد رأينا بعد ذلك آثار اختلاط الإسلام بالأفكار الغريبة عنه، ومدى الخطورة على الإسلام لو أدخلنا عليه أي أفكار، حتى ولو كانت من أفكار الفلاسفة وكبار الحكماء كما يقولون. ومثال ذلك: دخول المناهج الفلسفية اليونانية على الإسلام، عندما ترجمت
الى العربية.
فلا غرابة في تبني المعتزلة والشيعة للفكر الفلسفي وتوظيفه لخدمة أغراض عملية سياسية بالدرجة الأولى.
أما الشيعة؛ فكان دورهم أكبر وأوسع وأعمق؛ إذ تبنت فرقهم الكبرى الفلسفة وشجعت المشتغلين بها وأغدقت عليهم المنح والعطايا.
 - فبعد نجاح الشيعة الزيدية في تأسيس الدولة البويهية سنة 334ه؛ شجع النظام البويهي الفلاسفة الباكرين من النصاري، فقد ناصر البويهيون آراء الفلاسفة بغض النظر عن مللهم ونحلهم وأفادوا منها لخدمة أغراض سياسية.
- أما "الشيعة الإثني عشرية؛ فقد رحبوا بالفلسفة والفلاسفة لذات الأهداف ؛ إذ نعلم أن بلاط الحمدانيين في حلب كان موئلا للمفكرين والفلاسفة.
- لقد بلغ احتضان الشيعة الاسماعيلية الفلسفة مداه ؛ فكانت عندهم "ضرباً من الايمان".
كما وظف حكام الدول الشيعية آراء الفلاسفة لنصرة مذاهبهم في الإمامة؛ فقد سَخَّرَ الحمدانيون آراء الفارابي في النبوة لهذه الغاية.

2👈 خلو جزيرة العرب من أي تاريخ أو واقع عسكري ملموس

الحكمة الثانية من نزول الرسالة في جزيرة العرب أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ أو واقع عسكري ملموس.
فلم يكن هناك ما يعرف بالجيوش العربية، بل كانوا قبائل متفرقة متشرذمة، لا يعرفون إلا حرب الإغارات والسطو على بعضهم البعض، وأعدادهم قليلة، وسلاحهم قديم، وخططهم بدائية.
فجاء الإسلام إلى هذه المادة الخام , هذه البقعة من الأرض فحصل انقلاب هائل بمعنى الكلمة، فإذا بالرجال البدو البسطاء الذين كانوا يعيشون في هذا المكان يصبحون قادة عسكريين على أعلى المستويات، لا مثيل لهم في التاريخ كله، وإذا بالقبائل المتفرقة تكون جيشاً واحداً مترابطاً، وإذا بالبدو الرحل يحاورون ويناورون ويفاوضون، ويفتحون البلاد، ويدعون العباد إلى عبادة رب العباد. 
 ففي غضون ثلاث عشرة سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
تسقط فارس، التي هي إيران والعراق وأوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وكازاخستان وأفغانستان وباكستان، نصف الأرض تقريباً تسقط في ثلاث عشرة سنة على أيدي هؤلاء البدو الرحل.

 كذلك في نفس الوقت على الجهة الغربية من العالم تسقط معظم ممتلكات الدولة الرومانية في آسيا وإفريقيا، 

معجزة عسكرية هائلة بكل المقاييس. 
قبل الإسلام كان العرب مثل أصغر دولة نامية في الأرض في هذا الوقت بالنسبة لأعظم قوة في الأرض في زمانهم دولة فارس ودولة الروم. وكان العربي إذا أتى إيوان كسرى يقف على بعد خمسة عشر متراً منه، وكان يعتبر ذلك فخراً أبد الدهر.
فـالمغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في جاهليته يفخر على غيره بأنه دخل إيوان كسرى، فهذا يشبه عندما تأتي بشاب من دولة نامية ليقابل رئيس دولة عظمى كالولايات المتحدة أو روسيا .

وكان الفرس يتصدقون على العرب بالقمح من شدة المجاعات التي كانت تقع في أرض العرب؛ لذا لما ذهبت الجيوش الإسلامية لفتح فارس تعجب كسرى من العرب، كيف أتوا كي يفتحوا بلاده بينما هو يرى أنه من مضيعة الوقت أن يحاربهم؟ وقال: أنا أعرض عليكم عرضاً مغرياً جداً - في نظره، سأعطي ثوباً لكل جندي ودرهم. وأما القائد الإسلامي فسيغريه جداً ويعطيه ثوبين ومائة درهم . 
هذه كانت هي نظرة كسرى فارس ودولة فارس للعرب.
وهذه النظرة كانت واقعية بالنسبة لتاريخ العرب وتاريخ فارس، وتذكروا - لما جيء بمصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه من غزوة أحد ليدفن لم يجدوا ما يغطونه به. 
- وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب ليأتي بخبر القوم في الأحزاب كان عليه ملابس زوجته؛ لأن الجو كان بارداً.

هذا كان وضع الصحابة الذين فتحوا بلاد فارس الرهيبة وبلاد الروم الهائلة.
- وحتى لما كشرالعرب عن أنيابهم في الأحزاب بالكاد جمعوا عشرة آلاف، وهذا كان رقماً مهولاً عندهم، فعجب عجاب أن يفكرهؤلاء في غزو بلاد فارس، مع علمهم أن جيش فارس لا يقل عن اثنين مليون جندي! فجوة هائلة في التسليح والإعداد! بالإضافة إلى أن الحرب في عقر دار الفارسيين في وسط بلاد الفرس في العراق وإيران وغيرهما من البلاد على بعد مئات الأميال من المدد.
حقاً إنها معجزة عسكرية بكل المقاييس!! 
أين كان خالد بن الوليد  - وعمرو بن العاص - وأبو عبيدة بن الجراح -  والقعقاع بن عمرو التميمي - والبراء بن مالك - وأبو موسى الأشعري -  والزبير بن العوام - ومحمد بن مسلمة - والمقداد بن عمرو؟ 
الكوادر العظام في الإسلام أين كانوا قبل الإسلام؟ 
أين كان هؤلاء العباقرة العسكريون قبل إسلامهم؟ 
- خالد بن الوليد في أُحد أمام خمسين من الرماة وهو في ثلاثة آلاف لم يحرك ساكناً، لولا خطأ الرماة بترك الجبل فيما بعد وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من فوق الجبل، هذا هو خالد، 
- ما الذي جعل خالد يدخل بلاد فارس بثمانية عشر ألف جندي مسلم ويكسر بهم مائة وعشرين ألفاً ولا يغلب في موقعة؟ 
- كيف ينتصر المسلمون باثنين وثلاثين ألفاً في القادسية على ربع مليون فارسي؟ 
- كيف ينتصر المسلمون بتسعة وثلاثين ألفاً على مائتي ألف رومي في اليرموك؟ 
- كيف فتحوا بلاد الأندلس باثني عشر ألفاً وأمامهم مائة ألف إسباني صليبي في عقر دار الأسبان؟ ألغاز لا يمكن أن تفهم إلا بحقيقة واحدة لا ثاني لها: 
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) 

3👈 - عدم وجود حكم مركزي أو دكتاتوري في مكة وتعدد موازين القوى و

لم يكن الحكم في مكة حكماً مركزياً، ولم يكن في مكة ثمة حاكم معين، بل مجلس يضم عشرة أشخاص يمثلون عشر قبائل، حكم ائتلافي يشبه الحكم الديمقراطي.
 وقد أفادت كثرة موازين القوى في مكة الدعوة، ووجدت إضافة إلى ذلك بعض القوانين الوضعية في أرض مكة استفاد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يتنازل عن شيء من دينه ولا من عقيدته، لا تعارض لها مع شرع الله عز وجل , نذكر منها:

-💨 قانون الجوار:  كان في مكة هذا القانون ، ولو كان الحكم مركزياً مثل فارس أو الروم ما تمت هذه الإجارة، 
- فالرسول عليه الصلاة والسلام استفاد من هذا القانون، ودخل في جوار المطعم بن عدي المشرك؛ لكي يحميه من أهل مكة. 
- ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جوار ابن الدغنة المشرك.
- ودخل عثمان بن مظعون رضي الله عنه في جوار الوليد بن المغيرة المشرك.
هكذا استفادوا من قانون الجوار الوضعي في مكة، لكن بدون تفريط في العقيدة أو الدين.

-💨 حماية بني هاشم : كذلك هناك قانون قبلي أيضاً كان في مكة استفاد منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حماية بني هاشم له، وبالذات في أثناء حياة عمه أبي طالب مع كون معظمهم على الشرك، أبو طالب بالذات كان مشركاً، وبقي إلى آخر لحظة من لحظات حياته مشركاً، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قبل حمايته.

-💨 قانون الأحلاف : قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بفكرة الأحلاف مع المشركين، إذا كان الحلف يهدف إلى أمر نبيل ولا يتعارض مع الدين الإسلامي، 
- يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( شهدت وأنا غلام - أي: قبل البعثة - حلفاً مع عمومتي المطيبين ) كان حلفاً بين بني هاشم وبني تيم وزهرة على نصرة المظلوم.
يقول: ( فما أحب أن لي به حمر النعم وأني نكثته، ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت ).
- وأكثر من هذا ما كان في صلح الحديبية، فقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة خزاعة وكانت مشركة. وكان للمسلمين دولة وكيان معروف وقوي.
- ووقع صلى الله عليه وسلم معاهدة مع قريش، وبهذه المعاهدة حالف خزاعة ووضع يده في يدها، وما تنازل عن أي قانون إسلامي أو أي عرف إسلامي، لكنه تعاون مع خزاعة ضد قريش.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم استفاد من تعدد موازين القوى، ومن قوانين المجتمع الوضعية ما دامت لا تتعارض مع الدين والشرع والعقيدة. 
وهذه الحكمة ما كانت لتظهر لو نزلت الرسالة في بلد فيه حكم ديكتاتوري مثل: فارس أو الروم أو غيرهما من الممالك الموجودة في ذلك الوقت.

4👈 إتقان أهل الجزيرة العربية للغة العربية لغة القرآن

الحكمة الرابعة من نزول الرسالة في جزيرة العرب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث اللغة العربية لغة قومه ، وهي أشرف اللغات، وبها نزل القرآن الكريم، وهي لغة أهل الجنة، والقرآن كلام الله عز وجل.
- ولم ينزله الله عز وجل بهذه اللغة لأهل الجزيرة فقط، بل للعالم كله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:١٠٧] في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه وإلى يوم القيامة.
- وقد نزل القرآن بهذه اللغة في وقت كانت فيه لغات كثيرة موجودة في الأرض، واستحدث غيرها من اللغات على مر التاريخ، وستكون لغات أخرى إلى يوم القيامة، ومع ذلك أراد الله عز وجل لهذا القرآن وهذا المنهج أن يكون باللغة العربية؛ لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى يعلم أن اللغة العربية قد تكون أقل انتشاراً من غيرها من اللغات في زمان من الأزمان، ففي زماننا هذا فإن اللغة العربية أقل انتشاراً من الإنجليزية أو الصينية أو الفرنسية، ومع علم الله عز وجل بذلك الأمر إلا أنه أنزل القرآن باللغة العربية، لحكمة كاملة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، ، 
فاللغة العربية أثرى لغة والشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة، فلك أن تعبر عنه بعشرات الكلمات.
 فمثلاً: العسل له ثمانين اسماً -  والثعلب له مائتا اسم -  والأسد له خمسمائة -  والجمل له ألف -  والسيف له ألف - هذه هي اللغة العربية.
- وأيضاً الكلمة الواحدة في اللغة العربية تكون بنفس الحروف، إلا أن تغيير حركات التشكيل يعطيها أكثر من معنى، كل هذا أعطى اللغة إمكانيات هائلة، تنزل الآية بكلمات قليلة محدودة ومع ذلك تحمل من المعاني ما يصعب حصره, فمثلا:
  • حَسِبَ وحَسَبَ وحَسُبَ.. الأولى بمعنى ظنّ، والثانية بمعنى عدّ، والثالثة بمعنى شَرُفَ.

  • البَرّ والبِرّ والبُرّ.. البَرّ: اليابسة، والبِرّ: الإحسان، والبُرّ: القمح.

  • الخِلّة والخَلّة والخُلّة.. الخِلّة: ما يبقى بين الأسنان، والخَلّة: الثقبةُ الصغيرة أو الحاجةُ، والخُلّة: الصداقة، وخُلّة الإنسان أهل مودته.

  • الجَدّ والجِدّ والجُدّ.. الجَدّ: أبو الأب، الجِدّ: الاجتهاد، الجُدّ: ساحل البحر؛ ومنه سُميت جُدّة بضمّ الجيم..

وهكذا كلما نظر المفسر في الآية استخرج منها معاني جديدة مختلفة عن التي استخرجها غيره، قد ينظر المفسر الواحد في الآية أكثر من مرة، وفي كل مرة يخرج بمعنى جديد، وتمر الأزمان والأزمان ثم يأتي مفسرون آخرون ليستخرجوا معاني جديدة.
وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عندما وصف القرآن بأنه لا يخلق من كثرة الرد، أي: لا يبلى من كثرة الترديد والقراءة.
فمن عوامل نجاح الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، إتقان أهل هذه البقاع اللغة العربية, فلاتقانهم لها أدركوا اعجاز هذا الكلام المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .  قال الله سبحانه وتعالى: 
{ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ }   [الشعراء:١٩٨ - ١٩٩].

فالعرب المتقنون للغة أدركوا منذ أول لحظة سمعوا فيها القرآن أن هذا الكلام معجز، لذا لم ينتقدوا آية واحدة من آيات القرآن الكريم، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبداً، وما اجتمعوا لكي يعارضوا القرآن الكريم، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدة مع تحدي القرآن لهم.
فالقرآن يتحداهم أن يأتوا بسورة أو عشر سور أو بمثل القرآن كله وهم لا يستطيعون، يعلمون أن القرآن الكريم، وهذه الكلمات والآيات والسور من المستحيل أن تعارض.
فمعرفة العربية كانت أدعى لفهم الإعجاز العجيب في كتاب الله عز وجل.
وهذا الأمر ليس مقصوراً فقط على الإعجاز اللغوي، بل حتى أي نوع من أنواع الإعجاز في القرآن الكريم يحتاج إلى فهم دقيق للغة، بل حتى الإعجاز العلمي الذي نستخرجه من القرآن الكريم لابد له من فقه للغة، ومعرفة معنى الكلمات، ومعنى الآيات، والمقصود من وراء كل كلمة.

5👈وجود بقايا من ملة إبراهيم في الجزيرة

الحكمة الخامسة من وراء نزول الرسالة في جزيرة العرب أن أهل هذه البقعة من الأرض كانوا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ويعلمون أنه الخالق، ولكنهم حكموا غيره في حياتهم، واتخذوهم إليه شفعاء، قال الله عز وجل في كتابه الكريم:
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزخرف:٨٧].
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } [الزخرف:٩].
ويقول: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر:٣].
الذي يؤمن بالله ولكن عنده اضطراب في فهمه وقصور في إدراكه أقرب من الذي يؤمن بإله آخر، أو لا يؤمن بوجود إله أصلاً.
 ما كان في وقت البعثة النبوية على الأرض من يفقه هذه الحقائق إلا القليل، كان هناك على ظهر الأرض من يعبد النار وبوذا، والمسيح عليه السلام، وبقرة أو شجرة أو فأراً أو إلخ، كما هو واقع في الهند.
ان الله ربنا سبحانه وتعالى يعلمنا أن ندعو الأقرب فالأقرب:
- ندعو الذي يؤمن بوجود الله عز وجل قبل الذي ينكر وجوده، 
- ندعو الذي يعظم الله عز وجل قبل الذي لا يعظمه، 
- ندعو الذي يحب الدين ولكن لا يتبعه قبل الذي لا يحبه أصلاً.
- ندعو الأقرب فالأقرب.

6👈صفات خلقية أهلت العرب لحمل رسالة الإسلام

الحكمة السادسة من نزول الرسالة في جزيرة العرب مع كل ما سبق من أجواء أخلاقية وأمراض اجتماعية في جزيرة العرب إلا أن المجتمع كان يتصف بصفات أصلية في فطرة ساكني هذه المنطقة، تساعد على حمل الدعوة ونشر الإسلام.
نعم، كان عندهم ظلم وقهر لكن، كان عندهم صفات جبلوا عليها، ولولا هذه الصفات لما استطاعوا حمل رسالة الإسلام, ومن هذه الصفات: 
-الصدق:
 وهي أهم صفة مميزة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أهم صفة كانت مميزة له الصدق، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وأكثر من ساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، اسمه: الصديق، فصفة الصدق صفة أساسية في الذي يحمل هم هذا الدين.
 انظروا إلى فعل اليهود والنصارى بدينهم، 
يقول الله عنهم: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران:٧٨] .
فقد كان العرب يأنفون من الكذب، فيأتي الإسلام بعد ذلك ليحسن ويجمل ويعظم قيمة الصدق عند هؤلاء الصادقين، فيربط الأمر بالجنة.
فهذا أبو سفيان لما كان يتحدث مع هرقل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، وكان لا يزال مشركاً يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال أبو سفيان: 
" كنت أنا أقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل: أدنوه مني -أي قربوه- ثم قال: قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن النبي فإن كذبني فكذبوه، وبدأ يسأله ووضع أصحاب أبي سفيان وراءه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عمداً.
هو يكرهه جداً، لكن يستحي أن يكذب؛ لأنه رذيلة.
وفي لفظ آخر يقول: فوالله لو كذبت ما ردوا علي -لأنه سيد القوم- ولكني كنت امرأً أتكرم عن الكذب.
وكان الحوار الذي دار بينه وبين هرقل حواراً عجيباً، كأنه داعية يتكلم عن الإسلام، ويدعو إليه.
يقول له هرقل: كيف نسبه فيكم؟ يقول: هو فينا ذو نسب.
فيقول له: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قلت: لا، 
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، 
قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، 
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، 
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، 
قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ قلت: لا، 
قال هرقل: فهل يغدر؟ قلت: لا.
ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة، يعني: قوله: نحن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، لاحتمال أن يغدر بنا، لكن هو قال: لم يغدر قبل ذلك، 
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، 
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا -مثل بدر- وننال منه -مثل أحد.
قال: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة.
لم يكذب، وكل الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته لخصه لـ هرقل؛ لأنه يكره الكذب.

فلما تنزل الرسالة على أناس بهذا التكريم لصفة الصدق سوف يتحركون بالرسالة بأمانة ويقولونها للناس مثلما نزلت عليهم بالضبط.

إذاً: هذه كانت صفة هامة في أهل الجزيرة العربية، ولم تكن موجودة في أهل الأرض في ذلك الزمن.

- صفة الكرم :
الصفة الثانية العظيمة في العرب لما نزلت فيهم الرسالة صفة الكرم، وهي صفة أصيلة في العرب، كان حاتم الطائي يضرب به المثل في الكرم، وكان يعتق العبد إذا جاءه بضيف؛ لأنه يحب الكرم.
ومن العرب من لم تكن له إلا ناقة واحدة فيأتي له ضيف فيذبحها له كرماً منه، لدرجة أن العرب سموا العنب: كرماً؛ لأنهم يصنعون منه الخمر، ولما يشرب الرجل منهم الخمر ينفق بلا حساب، فمن حبهم الكرم سموا الخمر التي تؤدي إلى الإنفاق بدون حساب: كرماً.

فجاء الإسلام ليهذب هذه الصفة النبيلة، فلا يصل الأمر إلى حد الإسراف والسفه، وأيضاً لا يصل إلى حب الخمر؛ لأنها تدفع إلى الكرم، لكن حرم الله عز وجل الخمر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب بالكرم، وقال: (إنما الكرم المؤمن).

- الوفاء بالعهد:

كان يهون في نظر العربي كل نفيس وغالي للحفاظ على عهده، واحترام وعده، ولم تكن الاتفاقيات والأحلاف والتجارات والأمانات موثقة أو مكتوبة، وإنما كانوا يعتمدون على الكلمة أو العهد الذي اكتسب قوة ونفاذاً مع حرص العرب على الوفاء به، خاصة وأن نقضه كان يعرض القبائل والأفراد للمعرة والمنقصة، وقد تعددت صور ونماذج وفاء العرب بعهودهم إلى حد يثير الإعجاب. ومن أعجب ما يروى أيضاً من قصص وفاء العرب بوعدهم ما حدث مع المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء عندما حكم على رجل من طيئ يقال له حنظلة بقتله وفي الموعد المحدد التقى مع المنذر فقال له: لا بد من قتلك فسل حاجتك، فقال: أخرني حتى ارجع إلى أهلي، وأفعل ما أريد ثم أصير إليك، فتفعل بي ما تشاء، فقال المنذر: ومن يكفلك أنك تعود، فنظر الرجل في الحضور، فعرف شريك بن عمر بن شراحبيل الشيباني وكان من سادات العرب وأشرفهم فقال:
ياشريك يا ابن عمرو... ويا أخاً من لا أخاً له فوثب شريك وقال للمنذر: أبيت اللعن يدى بيده، ودمى بدمه فأطلقه المنذر بعد ان أمهله عاما كاملا يعود بعده لينفذ الحكم. فلما حال الحول، وحان الأجل، جلس المنذر ينتظر حنظلة، فلما أبطأ قليلا تقدم شريك ليقُتل مكانه، وبينما هو كذلك لم يشعر إلا بركب قد ظهر من بعيد فإذا هو حنظلة قد تكفن وتحنط وتهيأ لمقتله، فلما رآه المنذر عجب من وفائه وقال له: ما حملك على قتل نفسك؟ فقال إن لي ديناً وخلقاً يمنعاني من الغدر، فاستحسن ذلك منه وأطلقهما معاً  وقد أقر الإسلام هذا الخلق الكريم فقال اللّٰه عز وجل ممتدحا أهله «والموفون بعهدهم إذا عاهدوا

- الشجاعة والأنفة وعزة النفس:

كانوا لا يقبلون ذلا ولا هوانا، ولا يقيمون على الضيم، فكانوا إذا تعرضوا هم أو حلفاؤهم لأي إهانة استلوا سيوفهم، وبادروا إلى خيولهم، 


- الحلم:
على الرغم مما عرف عن العرب من شدة الانفعال، وفورة الأعصاب، فقد غلب على سادتهم وأشرافهم وعقلائهم صفة الحلم، فكانوا يمثلون صوت العقل والحكمة، يبثون الأمن والطمأنينة فيمن حولهم، فقد سعوا بين الناس بالسلم والود، وأطفئوا نيرانا للحرب، وانهوا خلافات وصراعات بين القبائل ، وحقنوا الدماء، وتحملوا الديات سعيا لوحدة قبائلهم، ولم شملها، وتوحيد كلمتها .
وكان من أشهر حكماء العرب الاحنف بن قيس صاحب المقولة الشهيرة «سيد القوم خادمهم». أي الساعي في خدمة أبناء قبيلته، ولما سئل بماذا سدت قومك قال: بثلاث خلال، بذل الندى، وكف الأذى، ونصرة المولى، وقال أيضا : تعلمت الحلم من قيس بن عاصم الذي جاءه خبر قتل ابنه، فلما جاءوا بالقاتل، أقبل عليه وقال لمن حوله : أرعبتم الفتى، ثم دنا منه وقال : يا بنى لقد نقصت عددك وأوهنت ركنك وفتت في عضدك، وأشمت عدوك وأسأت لقومكك، ثم أمر أن يخلو سبيله وما حل حبوته ولا تغير وجهه.