سلسلة السيرة النبوية بيعة العقبة الثانية

أحداث بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة


تمثل بيعة العقبة الثانية نقلة نوعية في تاريخ الدعوات، حيث ضحى المهاجرون والأنصار بكل شيء, بكل شيء في مقابل نصرة الدين. 
- فالأنصارعلموا أنهم سيحاربون كل الناس بجميع أجناسهم وأطيافهم، ويمنعون حامل الرسالة من أن يصاب بأذى، 
- وأما المهاجرون فقد تركوا خلفهم كل شيء؛ ليستقبلوا أمر الدعوة ويتحملوا تبعاتها مع إخوانهم الأنصار.
أحداث بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية المطهرة: فترة مكة.


فيما سبق تكلمنا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لستة من الخزرج في السنة الحادية عشرة من البعثة، وعن دعوة هؤلاء الستة للإسلام في يثرب، وكيف عادوا في العام الثاني عشر في موسم الحج وكان عددهم (12)، وعقد الرسول صلى الله عليه وسلم معهم البيعة المشهورة المسماة: ببيعة العقبة الأولى، وكانت هذه البيعة تهتم في الأساس بالعقيدة السليمة، والأخلاق الحسنة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا إلى المدينة المنورة ومعهم مصعب بن عمير رضي الله عنهم؛ لكي يعلمهم ويعلم أهل المدينة الإسلام.

وتكلمنا عن نشاط مصعب بن عمير مع أسعد بن زرارة رضي الله عنهما في الدعوة في المدينة المنورة في خلال السنة الثالثة عشرة من البعثة، وذكرنا قصة إسلام  أسيد بن حضير ، و سعد بن معاذ، ورأينا كيف انتشر الإسلام في المدينة حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام، ومرت الأيام وانتهت السنة الثالثة عشرة من البعثة، ورجع مصعب بن عمير  رضي الله عنه وأرضاه إلى مكة قبل موسم الحج، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع المدينة وإمكانياتها، وعدد المسلمين وإمكانياتهم وأخلاقهم وتربوياتهم، أعطاه صورة كاملة عن الوضع في المدينة.


عدد وفد الأنصار في الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة


في موسم الحج في السنة (13) من البعثة حضر المسلمون من المدينة إلى مكة لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستماع منه، ومعظم هؤلاء لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل الإسلام الذي تعلموه وعرفوه كان عن طريق مصعب بن عمير رضي الله عنه.

أتى الوفد المسلم من يثرب ضمن الوفد اليثربي الكبير المشرك، المكون من (300) تقريباً، منهم (75) مسلماً، 

- (73) من الرجال 

- وامرأتان.

والغريب أن المشركين الذي كانوا في هذا الوفد لم يعرفوا أكثر المسلمين، يعني: أن المسلمين من الأنصار كانوا غير معروفين في المدينة بإسلامهم، مع أن دعوة مصعب بن عمير كانت علنية، كان يجلس وسط كل الناس، لكن يبدو أن الذي يسلم كان لا يعلن إسلامه؛ مراعاة لظروف المدينة وكثرة المشركين، ووجود اليهود، وغير ذلك من العوامل، كل هذا جعل الدعوة علنية لكن التربية سرية، واستطاع مصعب بن عمير رضي الله عنه والأنصار أن يكيفوا ظروفهم بحيث تتناسب مع ظروف المدينة المنورة في ذلك الوقت.

المعالم العامة لوفد العقبة الثانية


كان بين وفد الأنصار المكون من (75) وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وعد في موسم الحج سنة ثلاث عشرة من البعثة، وهم لا يعرفون أي شيء عن اللقاء : 
- بماذا سيكلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ 
- أو ماذا يريد منهم؟ 
كل الذي يعرفونه هو الاتفاق الذي جرى مع أصحاب بيعة العقبة الأولى، وهذا الاتفاق لم يكن فيه شيء غير العقيدة والأخلاق وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
معظم تكليفات بيعة العقبة الأولى فردية:
- لم يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب ولا الجهاد أو أي طلب للنصرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مقدراً لوضع أصحاب بيعة العقبة الأولى، وكان يعلم بأن إمكانياتهم مهما كبرت فإنها محدودة، 
- ولم يطلب منهم أن يستضيفوه هو ومن معه في مكة إلى المدينة المنورة، 
ومع ذلك ومع عدم التكليف للأنصار إلا أنهم هم من كان يبحث عن النصرة والمساعدة والاستضافة لرسول الله وللمؤمنين في مكة.

هناك كلمة جميلة قالها جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو من الستة الأنصار الأوائل الذين أسلموا في السنة الحادية عشرة من البعثة، ثم بايعه بعد ذلك في بيعة العقبة الأولى، قال هذه الكلمة وهم ما زالوا في المدينة قبل أن يأتوا مكة، قال  جابر بن عبد الله: " فقلنا: -أي نحن الأنصار- حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، يقول: فرحل إليه منا (73) رجلاً "! 

فالأنصار هم الذين سعوا إلى نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلب منهم ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم أن يأتوا بهذا العدد الكبير في هذا الموسم، لكن هم الذين جمعوا أنفسهم في هذا العدد الكبير من أجل أن يقنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالذهاب معهم إلى المدينة، هم الذين بحثوا عن التكاليف والواجبات الشاقة والصعبة في الإسلام.

رغبة الأنصار هذه ستفسر لنا مواقفهم التي سنقولها الآن في بيعة العقبة الثانية، وستفسر لنا مواقف الأنصار بعد ذلك في كل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

كان الأنصار أنصاراً للدين بمعنى الكلمة، لم يفكروا في شيء لأنفسهم فحسب، بل عاشوا للدين وللإسلام، عاشوا لغيرهم من المسلمين، ما أبلغ الوصف الذي وصفهم به ربهم سبحانه وتعالى عندما قال:

 { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }     [الحشر:9]، 

هذه الآية تلخص كل قصة الأنصار، ولن تستطيع أن تستوعب المواقف العظيمة للأنصار إلا في ضوء هذا المعنى الجميل الذي أشار إليه الله عز وجل في كتابه الكريم.

إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار لموعد بيعة العقبة الثانية

وصل الأنصار إلى مكة مع وفدهم، وبدءوا يرتبون للموعد الذي سيتم بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعله في غاية السرية؛ لأنه الموعد الذي يسبق قيام دولة المسلمين، وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يقابل ممثلين عن الخمسة والسبعين؛ لأنهم من بطون مختلفة وفروع مختلفة من الأوس والخزرج، صحيح أنهم يرجعون في النهاية إلى قبيلتين، لكن فيهم بطون كثيرة وفروع كثيرة، ومن الممكن ألا يوافق الكل على جميع الشروط التي سيقولها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن غير المعقول أن يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم يكتشف أن كثيراً منهم ليس على قدر المسئولية، أو أن فيهم معترضاً على وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، أو على بعض بنود الاتفاق؛ لذا كان لابد أن يقابلهم كلهم، ويتأكد أنهم كلهم موافقون على هذا الموضوع بكل أبعاده، وأن كل واحد منهم سوف يبايعه ويسلّم عليه بيده؛ من أجل أن يؤكد البيعة معه بنفسه، فيطمئن من كل واحد بعينه أنه موافق على كل بنود الاتفاق.
ومن هنا يطرح السؤال نفسه:

- كيف سيقابلهم وهم في زحمة الحج، ووسط مكة الصغيرة؟ - كيف سيقابلهم من غير أن يشعر به أحد من أهل مكة؟

فكان التخطيط كالاتي:

- أولاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الموعد في آخر ليلة من ليالي الحج، يعني: في ليلة (13) من ذي الحجة؛ لأن الحجاج سيعودون إلى بلادهم في اليوم الثاني مباشرة، فلو أن أحداً من أهل قريش علم باللقاء، فلن يصلوا إلى الوفد إلا بعد رحيله.

- ثانياً: أنه جعل ساعة اللقاء في الثلث الأوسط من الليل؛ لأن الأغلب أن كل الناس في مكة سيكونون نياماً في هذا الوقت، فالذي سينام متأخراً سيتأخر نومه إلى الثلث الأول من الليل، والذي سيصحو مبكراً سيصحو في الثلث الأخير من الليل، لكن الثلث الأوسط يكون الناس فيه في الأغلب نياماً.

- ثالثاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مكاناً بعيداً عن زحمة الحجاج، اختار الشعب الأيمن من العقبة، وهو مكان بعيد، لا يوجد أحد من الحجاج وضع فيه مخيمات.

- رابعاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر أحداً من المسلمين في مكة بالموعد إلا ثلاثة فقط، وسيكون لهم دور في الاجتماع، وهذا ليس بشك في المسلمين، لكنه يريد السرية التامة، فمن ليس له علاقة بالموضوع لا داعي لمعرفته بموعد الاجتماع، وهؤلاء الثلاثة هم:

- عمه العباس ، وكان في ذلك الوقت ما زال مشركاً

- و أبو بكر ، 

وعلي  

رضي الله عنهم أجمعين، 

أما العباس فلأنه سيكون مشاركاً في الاجتماعات، وأما أبو بكر و علي فلتأمين المكان ومراقبة مداخل الشعب الذي سيتم فيه اللقاء.

- خامساً: ليأخذ الأنصار الحيطة أيضاً، فمعهم في الوفد (225) مشركاً في نفس الخيام، ورئيس الوفد مشرك، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول الذي سيكون بعد ذلك زعيم المنافقين، فلابد أن يأخذوا الحذر الكافي.

يقول كعب بن مالك  رضي الله عنه وأرضاه -أحد المشاركين في بيعة العقبة الثانية : 

فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل -أي: الأول -، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين

- القطا: طائر صغير يشبه الحمام -، فكانوا يخرجون واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، إلى أن اجتمعوا كلهم في المكان المتفق عليه.


أتى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الموعد ومعه العباس رضي الله عنه، وبعث أبا بكر و عليا  كلاً منهما على مدخل من مداخل الشعب للمراقبة.


وقائع بيعة العقبة الثانية


بدأ الاجتماع وكان وقت الاجتماع قصيراً مع أن أحداثه كانت كبيرة. في مثل هذا المكان الذي لا يرى على خارطة الأرض، الاجتماع الذي سيغير من خارطة الأرض كلها

وأعداء الله كأمثال ابي جهل  و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة  وحي بن أخطب  و كعب بن الأشرف وغيرهم غافلون لا أحد كان يعرف بهذا الاجتماع الذي  ستتزلزل  عروش كسرى وقيصر في غضون سنوات قلائل.


كانت كلمة الافتتاح للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما زال مشركاً، وواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً له، وأتى به لأداء دور سياسي معين، ما هو هذا الدور؟

أولاً قد نستغرب من شيء كهذا، لماذا يحضر مشركاً في مباحثات بهذه الخطورة؟

هذا الدور هو: 

- لتوضيح مكانة بني هاشم في مكة، وليعلم الأنصار أنهم سيأخذون الرسول صلى الله عليه وسلم من قبيلة كبيرة ذات شرف، فيكونوا هم البديل الحقيقي لبني هاشم، 

- وكون العباس مشركاً يعطي بُعداً سياسياً آخر، وهو أن بني هاشم مؤمنهم وكافرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو جاء  بحمزة فقد يقع في أنفسهم أنه أتى ليمثل المؤمنين لا ليمثل بني هاشم، وسنرى في كلام العباس رضي الله عنه ما يثبت هذه التحليلات.

قال العباس : 

يا معشر الخزرج! - والعرب كانت تسمي أهل المدينة كلهم خزرجاً، سواء كانوا من الأوس أو الخزرج - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.

كانت افتتاحية العباس  سريعة وموجزة، وقد وضح من خلالها الدور الذي أتى من أجله.

ثم جاء دور الأنصار في الكلام، وكانوا في منتهى الأدب، فقد كانت هناك ردود كثيرة ممكن أن تقال للعباس - الا أن

المباحثات لم تكن سياسية دنيوية، بل كانت إيمانية بحتة، فالأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليكونوا أنصاره وأتباعه، وطوع إرادته، جاءوا وهم يعلمون أن المنة والفضل لله ولرسوله، وأن العمل والبذل عليهم وعلى المسلمين جميعاً، فكانوا يفهمون دورهم جيداً، من أجل ذلك قالوا في أدب رفيع: 

قد سمعنا ما قلت - يكلمون العباس رضي الله عنه -، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

بنود بيعة العقبة الثانية


تهيأت للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الصعب الحرج، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت فرصة كبيرة ليذهب إلى بلد كريم، وفي هذا الظرف يعرض على الأنصار شروطاً في منتهى المشقة لقبول استضافته، لم يعرضها على أحد آمن من قبل.

كان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ييسر على الناس أمر الإيمان، كان يقبل أن يقوم الرجل بالفرائض فقط ولا يؤدي النوافل، وكان يقول: 

أفلح إن صدق )، ( إن صدق دخل الجنة ) وليس هذا فحسب، بل كان يعطي الأموال من أجل أن يتألف قلوب الناس للإيمان.

أما الآن وهو في هذا الموقف الحرج فإنه يشترط شروطاً قاسية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يبني أمة، 

- وفرق كبير بين بناء فرد صالح يعيش لنفسه ولأسرته، 

- وبين فرد صالح في ذهنه وتفكيره أنه يحمل هم الأمة الإسلامية، لا ينام وهو يرى حوله المنكر والظلم والكفر، ينصر المظلوم ، ويدافع عن كرامة الأمة الإسلامية كما يدافع عن ابنه أو زوجته أو أمواله أو حياته.

هذا هو الفرد المسلم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيه في هذه البيعة، بيعة العقبة الثانية؛ من أجل ذلك قال لهم ما سيأتي، كما أنه كان يعلم أنه يخاطب أناساً على قدر المسئولية، كان يكلم الأنصار.

ذكر لهم رسول صلى الله عليه وسلم خمسة بنود:

الأول: 

قال لهم :

 

1- ( تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل )، يشترط  رسول صلى الله عليه وسلم السمع في النشاط وهو سهل وفي الكسل وهو صعب . كان لابد من التوضيح للرؤية تماماً، طاعة في جميع الأحوال للرسول صلى الله عليه وسلم.


2- ( وعلى النفقة في العسر واليسر )، أس البناء يحتاج الى رجال معينين ( يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ... ) - لأن المال والجهد عصب الدعوة، وبذلهما التزاما وتطوعا هو المصدر الأول والوسيلة الأولى لتربية العصبة الخيّرة التي ستقوم بالبناء.


3- (  وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ). 

وهذا هو ما يميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم.

( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه )


4- ( وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم )، رسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن المؤمنين مقبلون على مرحلة جهاد وكلمة حق, تحتاج لرجال يقتالون أعداء الله على النحو الذي أمر الله بقتالهم، والوجه الذي أذن لهم به، في سبيل الله  ولا يخافون في ذات الله أحدا ، ولا يصدهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم لومة لائم.


5- ( وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ).

من أول الطيق يجب أن يعلم الأنصار ان محبة محمد صلى الله عليه وسلم فرض لازم على كل مسلم حباً صادقاً مخلصاً؛

فعن أنس رضي الله عنه - قال: 

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)،.

ومن هنا يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فقط أن يمنعوه فحسب، بل يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم  وأزواجهم وأبناءهم ؛ حبهم لرسولهم  ولدينهم ولأمتهم لابد أن يكون أكثر من حبهم لنفسهم  ولأزواجهم وأولادهم.

واضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبني مسلماً من طراز خاص!


الفرق بين بيعة العقبة الأولى والثانية


كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الأولى يبني فرداً مسلماً مؤمناً يتصف بعقيدة سليمة، وبأخلاق حميدة:
- لا يسرق 
- لا يزني 
- لا يقتل.
أما بناء أمة فتحتاج لما هو أعلى، 
تحتاج لبذل وعطاء وجهاد بالمال والنفس، 
تحتاج لمكابدة و صبر و قوة ، 
تحتاج إلى أناس من نوع خاص، مثل الذين كان يشترط عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الشروط الصعبة، اكتفاء المؤمن بالاعتقاد الصحيح، وبالصلاة، والصوم واجتناب الكبائر؛ من سرقة وزنا وقتل، فهذا جزء من الإسلام، نعم هو جزء مهم، لكن في النهاية هو جزء من الإسلام.
الا أن الاسلام مع هذا: 
- يحتاج لمن يقود الناس إلى الخير،
- يحتاج لمن يدافع عنه - ومن يحمي؟ من يجاهد ويكافح؟ 
- يحتاج لمن يبلغ رسالة ربنا لكل الأرض؟ 
ويكفي أن البيعة الأولى التي اهتمت ببناء الفرد المسلم من دون جهاد أنها عرفت في التاريخ باسم بيعة النساء، 

بينما عرفت بيعة العقبة الثانية بهذه الشروط الصعبة بأنها بيعة الحرب وبيعة الجهاد.


موقف الأنصار من بنود بيعة العقبة الثانية


عادة ما تناقش البنود كل بند على حدة، الا أن الأنصار رجال من طينة أخرى :

قام البراء بن معرور رضي الله عنه يتكلم عن وفد الأنصار، وقد كان رئيس الوفد المسلم، مع العلم أن البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه لم يسلم إلا منذ ثلاثة أيام، أسلم وهو في طريقه من المدينة المنورة إلى مكة، لكنه كعادة الأنصار ولد إيمانه عملاقاً.

قال البراء بن معرور رضي الله عنه:

والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا - يعني: نساءنا - فبايعنا يا رسول الله! - وانتبه فهو الذي يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم - فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر) يعني: يشجعه على البيعة.

أترون إلى مدى اشتياق الأنصار للبيعة على الجهاد؟ هذا هو الجيل الذي سينصره الله عز وجل، لكن وأثناء كلام البراء بن معرور اعترض كلامه أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، أحد الصحابة الأجلاء القدماء الذين أسلموا في بيعة العقبة الأولى، قال: 

يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها -أي: بيننا وبين اليهود عهوداً - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ ).

موقف الأنصار خطير، فهم عقدوا معاهدات مع اليهود، وسيقطعونها، ولو أن دين الرسول صلى الله عليه وسلم انتشر ووضعه استقر هل سيرجع مرة أخرى إلى مكة؟ وإذا رجع إلى مكة كيف سيكون وضعهم مع اليهود؟ 

الحقيقة أن كلام أبي الهيثم بن جاء ليغلق كل أبواب الشيطان، ويريح الأنصار من كل ما يعكر صفاء البيعة .

تبسم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: 

( بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم! 

 تشجع الأنصار عندما سمعوا هذه الكلمات، وقاموا مسرعين إلى مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حصلت معارضة أخرى بعد هذا الكلام، قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يخاطب قومه قبل أن يبايعوا، وقال لهم: 

هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، فقال العباس بن عبادة : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس - يعني: كل الناس -، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم - يعني: لو أسلمتموه - خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو - والله - خير الدنيا والآخرة ).

العباس بن عبادة أيضاً من السابقين، ويعرف جيداً علامَ يبايع، لكنه يخاف أن يكون أحد الأنصار غير مستوعب لهذه التضحيات كلها.

فرد عليه الأنصار وقالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.

فقاموا يبايعون.

وقبل أن يبايعوا سألوا: 

- ما الثمن لمصيبة الأموال وقتل الأشراف؟ 

- ما الثمن للطاعة المطلقة في النشاط والكسل؟ 

- ما الثمن للنفقة في العسر واليسر، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللجهاد والنصرة، وحرب الأحمر والأسود من الناس؟ 

قالوا: ( فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لكم الجنة )!

الجنة، ليس هناك وعد بشيء آخر، لا وعد بمنصب ولا بدولة ولا بتمكين ولا بنصر، وان حصل كل هذا في يوم من الأيام، فقد يموت البعض قد مات شهيداً قبل التمكين بسنوات، قد يموت طريداً شريداً معذباً، قد يحدث كل ذلك، لكن المهم أن الثمن هو الجنة يقينا.


لما سمع الأنصار هذه الكلمة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن عندهم غير كلمة واحدة قالوها بعد ذلك، قالوا: ( ابسط يدك يا رسول الله -يريدون مبايعته- فمد الرسول صلى الله عليه وسلم يديه للأنصار من أجل أن يبايعوه )، 

لكن قبل أن يضع أي أنصاري يديه في يد الرسول صلى الله عليه وسلم قام الصحابي الجليل أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه وأمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم - اعتراض ثالث - وقال يكلم الأنصار: 

رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي: نحن نعلم جيداً أنه رسول، ونعلم أن هناك جنة، ولكن الكلام سهل، كل الناس يريدون الجنة، لكن لابد أن تعرفوا العمل المطلوب منكم من أجل الدخول إلى الجنة، لابد أن تعملوا أشياء صعبة، قال أسعد بوضوح: 

وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإن كنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وأما إن كنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله ).

قام الصحابي الجليل أسعد بن زرارة  رضي الله عنه ليؤكد على نفس المعنى من جديد، لكن بألفاظ أخرى، من أراد أن يحيا حياة آمنة؛ يعبد الله عز وجل في بيته، أو في مسجده ولا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل، ولكن ليس له علاقة بتمكين دين الله في الأرض، ولا بالجهاد في سبيل الله، ولا بالدعوة إلى الله، ولا بالعمل الدءوب لله، ولا بالتضحية من أجل الله عز وجل، فعليه أن يبايع بيعة النساء، هذه تكفيه، أما من أراد أن يبايع بيعة الرجال، وبيعة الحرب فعليه أن يفقه هذه البيعة فقهاً جيداً، فهذه الاعتراضات كلها من أناس هم من السابقين أصحاب بيعة العقبة الأولى، أرادوا بها أن يوضحوا للأنصار الصورة بأكملها، لكن الأنصار كلهم كانوا يفهمون شروط البيعة؛ لذا قالوا في منتهى الوضوح والحماسة: 

(يا  أسعد : أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه

فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة ). وتمت البيعة الخالدة بيعة العقبة الثانية التي غيرت وجه التاريخ.

حرية اختيار الأنصار لنقبائهم في بيعة العقبة الثانية


هناك أمور الإدارية في تنظيم العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار.

- أولاً:  لابد من وجود من يمثل الأنصار.

ثانياً: لابد من مرجع لو حصلت مشكلة من الأنصار 

فجعل رسول صلى الله عليه وسلم لكل خمسة من الأنصار نقيباً، فيكون كل ستة مجموعة، 

ولما كان الأنصار (73) خرج منهم (12) نقيباً.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار: 

أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً، ليكونوا على قومكم بما فيهم ).

حرية كاملة للأنصار في اختيار ممثليهم، هم أدرى بحالهم ، لقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة عظيمة من قواعد الحكم في الإسلام، وهي قاعدة أن على الأمة أن تختار ممثليها اختيارا حقيقياً، ليس فيه تدخل من أحد، هذا ما كان يريد أن يزرعه الرسول صلى الله عليه وسلم بداخل الأنصار، وداخل الأمة الإسلامية بكاملها إلى يوم القيامة.


تغير كل شيء وجلس الأوس والخزرج سوية لأول مرة في تاريخهم لاختيار نقبائهم، وكانوا قبل ذلك يتقاتلون ويتصارعون من أجل زعامة القوم.

إن الذي جمع الأوس والخزرج هو نبل الغاية، وسمو الهدف، لما أصبحت الجنة هي الهدف وهي الغاية لم يعد للزعامة قيمة، بل أصبحت مسئولية وتكليفاً ولم تعد تشريفاً.

انقلب التنافس على المناصب إلى التنافس على الجنة وهذه هي عظمة الإسلام.


في لحظات كان النقباء الخزرج التسعة هم

- أسعد بن زرارة ، 

- البراء بن معرور ، 

- عبد الله بن عمرو بن حرام ، 

- سعد بن عبادة ، 

- عبادة بن الصامت ، 

- سعد بن الربيع ، 

- عبد الله بن رواحة ، 

- رافع بن مالك ، 

- المنذر بن عمرو 

رضي الله عنهم أجمعين، 

أما نقباء الأوس فكانوا ثلاثة:

- أسيد بن حضير ، 

- وسعد بن خيثمة ، 

- وأبو الهيثم بن التيهان 

  وقيل بدلاً منه: رفاعة بن عبد المنذر 

رضي الله عنهم أجمعين.


و يختفي من أسماء الأوس البطل الإسلامي العظيم سعد بن معاد رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه لم يحضر أصلاً من المدينة المنورة إلى مكة.


بعد هذا عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعاً مع هؤلاء النقباء قال لهم فيه: 

( أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم 

يعني: أنتم مسئولون عن كل الأنصار، 

وأنا كفيل على قومي - يعني: المسلمين من أهل مكة- فقالوا: نعم ).

هكذا قسم رسول صلى الله عليه وسلم المسئوليات:

- الاثنا عشر نقيبا مسئولون عن الأنصار، 

- والرسول صلى الله عليه وسلم مسئول عن المهاجرين،


بعد ذلك طلب رسول صلى الله عليه وسلم من الأنصاراختيار واحداً منهم يسهل عملية الاتصال والمتابعة والإدارة وغير ذلك من الأمور، فاختاروا أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه أصغر النقباء رضي الله عنه، لما يظهر عليه من موهبة فذة.

وبهذا انتهت مراسم البيعة الفريدة بنجاح في عقر دار المشركين، ووسط الأعداد الهائلة من أعداء الله عز وجل، وصدق الله عز وجل في قوله

إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)


مناقب أصحاب بيعة العقبة الثانية


قال تعالى: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } 

- عندما نبحثت في أسماء الصحابة الذين حضروا هذه البيعة من الأنصار نجد قرابة السبعين من هؤلاء - تقريباً كلهم - اشترك في غزوة بدر الكبرى، وهذايعني أن البيعة لم تكن كلام وحسب - لا - فكلهم نفذوا، (70) تقريباً من هؤلاء حضروا غزوة بدر الكبرى.


- ثم حوالي نصف هذا العدد اشترك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل المشاهد والغزوات؛ لأن كثيراً منهم استشهد في الغزوات الأولى.


- أيضاً حوالي ثلث أصحاب بيعة العقبة الثانية مات شهيداً في سبيل الله عز وجل، يعني خمسة من اثني عشر- و لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء طلب للدنيا ولا للإمارة ولا للمال.

ولم يتراجع واحد من هؤلاء الأنصار المبايعين في بيعة العقبة الثانية  لا في أُحد ولا في حنين ولا غيرهما.

 

خلاصة القول أن الصدق الكامل في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي قلوب الأنصار المبايعين في هذه البيعة هو الذي كفل النجاح لهذه البيعة الفريدة، 

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:24]. 

صدقوا الله عز وجل فصدقهم الله عز وجل.

موقف قريش من بيعة العقبة الثانية بعد علمهم بها و فقه الموازنات


لم تمر بيعة العقبة الثانية دون تنغيص، فقد كان أتعس مخلوق عرف هذه البيعة هو الشيطان، يقول سيدنا كعب بن مالك
 لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط. - وهم علموا أنه الشيطان بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم - قال: يا أهل الجباجب، - يعني: المنازل، ينادي أهل مكة - هل لكم في مذمم - يقصد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم - والصباة معه؛ قد أجمعوا على حربكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزب العقبة -أي: شيطان العقبة - اسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك )، 
وبعد ذلك شعر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المشركين سيحضرون فقال للأنصار: ( ارفعوا إلى رحالكم ).

كان على الأنصار أن يركضوا مسرعين إلى رحالهم؛ لأنهم عرفوا أن قريشاً قد تأتي في أي لحظة، لكن لم يحصل هذا، وإنما قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، الذي قام قبل قليل يقول للأنصار: 

أنتم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس، قام وقال: ( والذي بعثك بالحق! لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا ). 

القتال في منى لم يكن من الأمور التي بايع عليها الأنصار، فهم كانوا قد بايعوا على أن يدافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وليس في منى ولا في مكة، لكن العباس بن عبادة  يعطي ما هو فوق البيعة، فهو يبحث عن الجنة.

فكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في منتهى الوضوح، قال: لم أؤمر بذلك )، 

وهذا من فقه الموازنات؛ كان لابد للمسلمين أن يتجنبوا القتال تماماً في هذا الوقت؛ وكان لابد من الحفاظ على الكثلة من الأنصارالتي بايعت - فبها سيتم التخطيط لنصر وتمكين وسيادة هذا الدين و اقامة الدولة و بناء الأمة الإسلامية ونشر الدعوة. 

من أجل ذلك رجع الأنصار إلى خيامهم، وناموا مع الوفد المشرك الذين أتوا معه، ولم يشعر بهم أحد حتى من وفدهم.


في اليوم الثاني علمت قريش بموضوع اللقاء، من الذي أعلمهم؟ الله أعلم، إما الشيطان الذي صرخ بالليل، وإما أن شخصاً رآهم، فذهبت قريش لمقابلة زعيم يثرب عبد الله بن أبي ابن سلول ، وبدأت تتكلم معه في خطاب يجمع بين الترغيب والترهيب.

قالوا: يا معشر الخزرج - يكلمون عبد الله بن أبي ابن سلول  - إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه - والله - ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، يعني: نحن نحبكم، لكن لو استمريتم على هذا الأمر سنحاربكم، وأنت تعرفون جيداً من هي قريش؟ 

فلما سمع عبد الله بن أبي ابن سلول  هذه الكلمات قام يقول بمنتهى الحمية: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا على مثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني.


نظر المسلمين الذين كانوا بداخل الوفد، والذين قاموا بالبيعة، ولم يتكلموا، وكأن شيئاً لم يكن.

اقتنعت قريش بكلام الوفد اليثربي، وتركوه وعادوا مرة أخرى إلى مكة، لكن بعدما عادوا إلى مكة علموا أن ظنهم كان في محله، فرجعوا مرة أخرى بسرعة من أجل أن يمسكوا بوفد يثرب فوجدوه قد رحل؛ لأنهم تقابلوا للبيعة في آخر ليلة من ليالي الحج، تحسباً لهذه الظروف التي حصلت، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عمل حسابه لها.


ارتحل الوفد، لكن من بعيد رأى زعماء مكة اثنين من المسلمين؛ رأوا سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، والمنذر بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، وهذان الاثنان هم من النقباء ، أما المنذر بن عمرو فاستطاع الهروب، لكنهم أمسكوا بـسعد بن عبادة سيد الخزرج، رجل عزيز لم يهن في حياته قط، لكن زعماء مكة أمسكوا به وضربوه وجروه على الأرض.


موقف في منتهى الخطورة، نظر المسلمون في مكة إلى أخيهم المؤمن وهو يضرب، ولا يستطيعون حراكاً؛ لأنهم لو تحركوا من أجل إنقاذه سيعلم مشركو مكة أن هناك بيعة تمت، وأن هناك لقاء تم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يتحرك من أجل نصرة  سعد بن عبادة  وهذا أيضاً من فقه الموازنات.


 كان جبير بن مطعم بن عدي و الحارث بن حرب بن أمية ممن رأى الموقف، و سعد بن عبادة رضي الله عنه كان يجير لهم القوافل عندما تمر بالمدينة المنورة، فأجاروه من قريش، وعاد سعد بن عبادة إلى قافلة الأنصار، ووصلوا إلى المدينة في أمان.

 

بدأ الأنصار في المدينة يمهدون لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين من مكة، بدءوا جميعاً يستعدون لوضع النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام: 

المدينة المنورة.


هذه كانت بيعة العقبة الثانية بكل الشروط التي فيها، وبكل الملابسات، وهناك دروس أخرى كثيرة لكن المقام لا يتسع لها.


الهجرة إلى المدينة


أصبح الوضع مستقراً إلى حد كبير في المدينة المنورة، وأصبحت الصعوبة في مكة، زعماء قريش الآن يعلمون بتدبير إسلامي خفي لشيء هم لا يعلمونه، هنا صدر الأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم للمؤمنين في مكة بأن يهاجروا إلى المدينة، كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر، الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، كل المسلمين لابد أن يهاجروا إلى المدينة المنورة؛ لأن هناك مشروعاً ضخماً محتاجاً إلى كل طاقة، هناك مشروع اسمه: 
بناء الأمة الإسلامية.

وبدأت الهجرة، والهجرة لم تكن شيئاً سهلاً، لم تكن عقد عمل أهدي لهم في بلد غني، كانت الهجرة تعني ترك الديار، والأموال، والأعمال، والذكريات.


كانت الهجرة الاستعداد لحرب ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل في كل الأرض، كانت استعداداً لحرب الأحمر والأسود من الناس، هذه هي الهجرة. لم تكن الهجرة هروباً، بل استعداداً لتكاليف أشق، ولواجبات أكثر وأعظم.


أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة، وانتظر هو فلم يهاجر، لم يكن همه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه ويؤمن حاله، أو يحافظ على أمواله، كان كل همه أنه يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، فالقيادة ليست نوعاً من الترف أو الرفاهية، بل مسئولية وتضحية وأمانة.


أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره لكل المسلمين في مكة بالهجرة، وليس في مكة فحسب، بل أي مسلم موجود على الأرض كان لابد أن يهاجر إلى المدينة المنورة، إلا من استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يمكث في مكانه، لسبب من الأسباب.


كان هذا هو الوضع في هذه الهجرة إلى المدينة المنورة، وهو مختلف عن هجرة الحبشة، فليس كل المسلمين هاجروا إلى الحبشة، كما أن طبيعة المكان وظروف المكان تختلف من الحبشة إلى المدينة، كان المهاجرون إلى الحبشة يريدون فقط الحفاظ على أنفسهم؛ لئلا يستأصل الإسلام إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة، لم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة أبداً، بل كان المسلمون مجرد لاجئين عند ملك عادل، أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.


كانت المدينة صالحة لإقامة أمة إسلامية بخلاف الحبشة فإنها لا تصلح، لأن في الحبشة معوقات كثيرة جداً لبناء الأمة الإسلامية:

- اختلاف اللغة والتقاليد،

- عدم استقرار الوضع، 

- الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد فقط وهو النجاشي رحمه الله، فهو ملك لا يظلم عنده أحد، وإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم، 


لكن في المدينة الوضع غير هذا، الهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين، بل على أنصار المدينة، والجو العام في المدينة أصبح محباً للإسلام، أو على الأقل كان قابلاً للفكرة، ومن ثم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية لكل المسلمين.


بدأت الهجرة العظيمة، ووقعت تضحيات مهولة مع إصرار وعزيمة، لكن كانت هناك أشياء كثيرة تخفف من آلام الهجرة، وهو إحساس المسلمين أنهم قاب قوسين أو أدنى من بناء الأمة، وقبل ذلك شعورهم بالمعية مع الله عز وجل، وشعورهم أن قائدهم معهم، وسيهاجر ويضحي ويتعب مثلهم، واستقبال الأنصار لكل من هاجر بحفاوة بالغة، وكأنهم إخوانهم من قديم. هذه الأشياء كلها كان تخفف كثيراً من آلام الهجرة، ومع ذلك كانت الهجرة صعبة.


قصص الهجرة كثيرة وعظيمة، وحقيقة أن المقام لا يتسع لتفصيلاتها، ويكفي أن كل واحد من المهاجرين قد ترك وراءه شيئاً عزيزاً عليه.

فمثلاً: أبو سلمة رضي الله عنه وأرضاه، هاجر وترك زوجته وابنه في قصة مشهورة مؤلمة، لكن كان  أبو سلمة يفهم واجبه، وكذلك كانت  أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها تفهم دورها، فصبرت سنة كاملة بعيدة عن زوجها، وسنة كاملة بعيدة عن ابنها الذي أخذه زوجها بعد فترة قصيرة عندما هاجر  أبو سلمة، ثم بعد سنة كاملة هاجرت إلى زوجها ومعها ابنها الآخر. هاجرت  أم سلمة مسافة (500) كيلو متر لوحدها.

تضحيات مهولة.

و صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه ترك وراءه كل ثروته، ترك ما جمعه خلال السنين الطويلة، ترك كل رصيده وهاجر إلى المدينة، ترك عمله الذي كان مستقراً فيه وهاجر.. وغيره وغيره وغيره، كل قصص الهجرة فيها تضحيات ضخمة.


وفوق أن الصحابة تركوا كل شيء وراءهم، كانت هناك خطورة حقيقية على حياتهم؛ فالكفار لم يكن عندهم أي مانع من قتل أي شخص إذا أمسكوا به، وعلموا أنه مسلم يريد أن يهاجر، بل أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فما بالكم بأي شخص ضعيف أو حليف، أو أي شخص من قريش ؟!


وجه هجرة عمر علناً بينما كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سراً


كان كل الصحابة تقريباً يهاجرون في السر، من دون أن يشعر بهم أحد، حتى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت سرية، إلا هجرة واحد من الصحابة فقط كانت علناً أمام كل الناس، تلك هي هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في المسجد الحرام وقال بصوت مرتفع: 
" يا معشر قريش! من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي " 
كان يقول هذا الكلام وهو متقلد سيفه، ويده الثانية فيها بضعة أسهم. فلم يقم له أحد، وهاجر رضي الله عنه وأرضاه أمام الناس أجمعين، كانت رهبة كبيرة لـعمر بن الخطاب عند عموم الناس!

هاجر عمر بن الخطاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه علناً والرسول صلى الله عليه وسلم سراً الأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع وقدوة سواء في زمن مكة، أو في الأزمان التي ستأتي بعد ذلك.

ما فعله عمر بن الخطاب استثناء وليس مطلوباً من المسلمين عندما يكون الحذر و الاحتياط لازمين. فالهجرة في حد ذاتها لم تكن هدفاً، إنما كان الهدف الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، والمطلوب  الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة.


الا أن موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان سليماً، لم تكن هناك مخالفة شرعية، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعترض على هذا الكلام، ولو وجدت مخالفة شرعية لاعترض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدل المسار للمسلمين، لكن هذا لم يحصل، فهجرة عمر بهذه الصورة صنعت رهبة كبيرة في قلوب الكافرين، أوقفت تفكيرهم تماماً - وهذا كان فيه فوائد كثيرة منها: 

- أنه هاجر معه (20) شخصاً من ضعفاء الصحابة! لم يستطع أحد من المشركين أن يقترب منهم، ولو أنهم خرجوا بمفردهم كان من الممكن أن يقتلوا، لكن لما أذل الله المشركين بهذه الصورة سهلت هجرة هؤلاء الضعفاء، وصدق عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه وأرضاه إذ يقول: إن إسلام عمر بن الخطاب كان فتحاً.


يقول عبد الله بن مسعود : " إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة ".


كان في هجرة الصحابة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، لكنها كانت خطوة لابد منها على خطورتها لبناء الأمة الإسلامية؛ وبهذا هاجر معظم المسلمين في مكة، وكل هذا تم في شهرين اثنين فقط، محرم وصفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة، يعني: بعد حوالي شهر واحد فقط أو أقل من بيعة العقبة الثانية، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: 

- الرسول صلى الله عليه وسلم، 

- وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع عائلته،

- وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، 

وكان بقاؤهما بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم.


كيف ستكون هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

وما هو رد فعل المشركين؟

وما هي تفاصيل الخطة البارعة التي سيضعها الرسول صلى الله عليه وسلم وصديقه أبو بكر الصديق الصديق  رضي الله عنه وأرضاه ؟


سنتكلم عن كل هذا في الدرس الآتي بمشيئة الله تعالى.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ  [غافر:44].


وجزاكم الله خيراً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.