سلسلة السيرة النبوية الهجرة إلى المدينة


إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

مع ما بذله الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق من تدبير الهجرة والتواري عن قريش، إلا أن العجز البشري يبقى له مكان في تلك الخطة، ليأتي التدبير الإلهي ليثبت نصرة الدين ورفعة حامليه، فالأخذ بالأسباب المادية مطلوب، ولكن لا بد من أن يعتمد على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.

مخاوف قريش من هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة ومخاطر ذلك عليهم



تكلمنا في الدرس الماضي عن بيعة العقبة الثانية التي مهدت لقيام دولة الإسلام في المدينة المنورة بعد ذلك، ورأينا مدى استعداد الأنصار للبذل والعطاء والكفاح والجهاد، وكيف قبلوا بكل الشروط الصعبة لبيعة العقبة الثانية.

تمت البيعة العظيمة، وعاد الأنصار إلى بلادهم يثرب أو المدينة المنورة، وبدءوا بترتيب أوضاعهم من أجل استقبال أفواج المهاجرين من مكة.

بدأت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة بعد شهر من البيعة، وكانت صعوبات وتضحيات، وكافح الصحابة سواء من الرجال أو النساء، فقد كانت معاناة كبيرة وضخمة، ومع ذلك تمت الهجرة ووصل المسلمون إلى البلد العظيم المدينة المنورة ولم يبق في مكة إلا ثلاثة أشخاص فقط : 

- الرسول صلى الله عليه وسلم، 

- وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، 

- و علي بن أبي طالب رضي الله عنه، 

والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمربذلك؛ لأن كل واحد منهم دور مهم في المرحلة القادمة.


كانت قريش في أزمة كبيرة، ما من يوم يصبحون فيه إلا ويجدون واحداً من المسلمين قد اختفى، أو عائلة مسلمة اختفت، وبعض الأحيان كانوا يجدون فرعاً كاملاً من قبيلة ليس موجوداً، بحيث إن الهجرة كانت تتم بصورة سرية تماماً، إلا هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

عرف المشركون أن الهجرة كانت إلى المدينة المنورة، ليس فقط من الشك الذي كان في وفد يثرب الذي جاء إلى مكة قبل ذلك في موسم الحج سنة (13) من البعثة، لكن من أخبار مؤكدة أتت إلى قريش من المدينة المنورة عن طريق أعوان وحلفاء لهم.

ونضرب مثلا على ذلك ما حصل من أبي جهل    وأخيه الحارث لأخيهما من الأم عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه وأرضاه، كان مسلماً وهاجر إلى المدينة المنورة مثل بقية المهاجرين المسلمين، الا أن أبو جهل علم بهجرته، فلحقه, ومن أجل أن يعيده إلى مكة أقنعه بأن أمه مريضة، وأنها تريد أن تراه قبل أن تموت، فأخذت عياش الرقة لأمه، وعاد مع الحارث وأبي جهل، وبينما هو في الطريق قيداه بالحبال وأخذاه إلى مكة وهو مقيد، وقالا لأهل مكة: هكذا فافعلوا بسفهائكم، وحبس في مكة لفترة طويلة.

سببت الهجرة الى المدينة قلقاً لقريش؛ لأنها كانت على فقه كامل بخطورة الموقف عليهم:

- أولاً: أن الذين هاجروا من مكة ليسوا أغراباً عن أهل مكة، بل إن كل واحد من زعماء قريش كان له أخ مهاجر أو ابن أو ابنة، وكل واحد منهم بداخله غيظ كبير على الدين الجديد الذي عرضهم لهذه المشكلة، وكل واحد منهم بداخله كذلك حب فطري لأولاده وأقاربه، ويرى أنهم قد بعدوا عنه، فهذه كانت مشكلة كبيرة، وكان من الصعب أن يقبل بها أهل مكة.

- ثانياً: أن دعوة الإسلام لو انتشرت في الجزيرة العربية، فمن الممكن أن تفقد قريش الكثير من مكانتها في الجزيرة، فقد كانت تكسب كثيراً من تجارة الحج إلى مكة، ومن تجارة بيع الأصنام، نعم، دين الإسلام يشجع الحج إلى مكة، لكن تجارة الأصنام وتجارة الخمور والزنا والربا ستقف، مصالح كثيرة جداً ستقف لأهل مكة، وكلها سوف تتعطل لو انتشرت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية.

- ثالثاً: كان المشركون يفهمون جيداً أن المسلمين ما هاجروا إلى المدينة من أجل قضاء فترة راحة أو استجمام، بل هاجروا لإقامة دولة إسلامية، ولو أقاموا هذه الدولة فلابد أن يعودوا إلى مكة مرة أخرى في يوم من الأيام، وعندما يعودوا إليها، لن يعودوا من أجل السكن فيها، لا، بل سيعودون من أجل أن يحكموا مكة، هكذا يقول المنطق، وطبيعة الدين الإسلامي هكذا تقول، مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة (13) سنة، يفهمهم قضية أن الحكم لله، فمؤكد أن المسلمين لن يرضوا أن يبقى أهل مكة على تحكيمهم لهبل أو أنصار هبل في حياتهم، لابد أن يحكموا الإله الذي يعبدونه ألا وهو الله عز وجل، وبالتالي يحكمون مكة، وكان هذا مرعباً لزعماء قريش.

- رابعاً: أن هذه الهجرة لم تكن إلى أي مكان، لا، بل إلى المدينة المنورة (يثرب)، وكان لها وضع خاص، وهذا المكان أكثر مكان لا يحب المشركون أن تكون الهجرة إليه، وذلك لعدة نقاط:

1: أن سكان يثرب هم الأوس والخزرج، وهم من أعز القبائل العربية، ومن أقواها في الحرب، وأشدها ممارسة لفنون القتال المختلفة، ولعل السبب في عدم ظهورهم في الجزيرة العربية، وأن تكون لهم كلمة مسموعة وكبيرة فيها هو الصراع الداخلي بين الأوس والخزرج، فلو حصل اتحاد بين هاتين القبيلتين الكبيرتين فسوف تكون مشكلة حقيقية على بقية القبائل.

2: أن الأوس والخزرج من أصول قحطانية، بينما قريش من أصول عدنانية، وتعرفون كيف كانت أثر القبلية في أيام الجاهلية، فإذا كانت قريش بفروعها لها خلافات كبيرة، مثل ما رأينا خلاف بني هاشم مع بني مخزوم، ومرجعهما إلى قريش، فما بالكم بين قحطاني وعدناني.

3: أن المدينة المنورة حصينة، وتعتبر حصانتها حصانة جغرافية طبيعية، فلو فكرت قريش في يوم من الأيام أن تغزو المدينة فسوف تتخذ قراراً صعباً.

4: أن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية المتجهة من وإلى الشام، فتستطيع المدينة المنورة أن تخنق مكة اقتصادياً، يظهر هذا جلياً عندما نعلم أن مكة كانت تتاجر بربع مليون دينار ذهب سنوياً مع الشام، تجارة مهولة، فتخيل في هذا الزمان ما مقدارها! وهذه كانت رحلة موسم الشتاء.

5: أهل مكة يعلمون أن اليهود يسكنون في المدينة المنورة، وهم أهل سلاح ومال واقتصاد وأعداد غفيرة، وقبائل متعددة، فماذا لو آمن اليهود وانضموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه بالنسبة إلى قريش مصيبة كبيرة، واليهود أهل كتاب، ويؤمنون بالأنبياء، والعقل يرجح اسلامهم فهم كانوا يعلمون أن نبياً سوف يظهر في ذلك الزمن، وقريش كانت تعرف هذا الكلام منهم. 


اجتماع قريش بدار الندوة بهدف منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة


نتيجة للعوامل السابقة الموجودة في المدينة المنورة، والتي كانت تسبب خطراً كبيراً على زعماء مكة.
تسرب المسلمون كلهم من بين أيد الكفارالى المدينة، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه هما: أبو بكر وعلي رضي الله عنهما، الا أن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه تعني أن كل المشاكل التي تخافها قريش ستقع، فلو استطاع المشركون القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم، و هو أصل المشاكل بالنسبة لكفار قريش, فإن خطر يثرب سيقل, الا أنه هناك عوائق يجب أخذها بالحسبان.
فقبيلة بني هاشم قبيلة كبيرة وعزيزة، ومن الصعب أن يدخلوا معها في حرب أو صراع، فقرر زعماء مكة نتيجة لهذه الحيرة أن يعقدوا اجتماعاً طارئاً، ليجدوا حلاً.

في يوم الخميس (26) صفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة عقد الاجتماع، وكان أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية، ما عدا قبيلة بني هاشم؛ مثل: 

 -  أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم، 

- وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة و أبو سفيان بن حرب كلهم عن قبيلة بني عبد شمس، 

- و النضر بن الحارث عن بني عبد الدار، 

- وأمية بن خلف عن بني جمح.. 

وغيرهم كثير، ولم يسمح لأي قبيلة غير قريش أن تدخل دار الندوة.

بدأ الاجتماع الخطير، ووضعوا المشكلة التي اجتمعوا من أجلها، وبدءوا بالنظر في آراء الحضور، فالطائفة المعتدلة من زعماء مكة كانوا يرون أن حبس الرسول صلى الله عليه وسلم كافياً، لكن اليمين المكي المتطرف كان رأيه مخالفاً لهذا الرأي، قال أحدهم ولعله أبو جهل  :

 لابد من قتل هذا الرجل، ولأن بني هاشم قبيلة قوية، خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شاباً قوياً، فيحاصرون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تجد بنو هاشم أمامها إلا قبول الدية؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا كل القبائل، فخرجوا بالموافقة على هذا الرأي.

قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف هذا الحدث:

  وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الأنفال:30]، 

(يثبتوك) أي: يقيدوك أو يحبسوك،  أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].


إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة مع أبي بكر وعلي رضي الله عنهما


نزل جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر هذه الجريمة، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، والرسول عليه الصلاة والسلام سأله عمن يهاجر معه؟ فقال: أبو بكر الصديق ، يعني: صحبة  الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بأمر من الله عز وجل، ويا لها من درجة عالية حضي بها رضي الله عنه وأرضاه.

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يرتب للهجرة، وبالذات أنه علم أن المشركين يريدون قتله فجر يوم الجمعة (27) صفر سنة (14) من النبوة، فزعماء قريش اجتمعوا في يوم الخميس (26) صفر، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ صاحبه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويرتب معه موضوع الهجرة، ولابد أن يكون كل شيء في سرية تامة، ولا يلفت أنظار أي شخص من قريش. 

- والمشكلة الأولى هي هل كان أبو بكر جاهزاً للسفر في الموعد الذي أخبر به من طرف جبريل،هكذا فجأة ويترك كل شيء،البنات و الأولاد والأم والأب وقد لا يرجع بالمرة.  

- وهناك مشاكل أخرى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم

 منها: أن قريشا سوف تكتشف هجرته لا محالة إن آجلاً أو عاجلاً وهي تعرف أنه سيتجه الى المدينة المنوره، فكيف يستطيع تعطيل المطاردة له من المشركين . 

ومنها: أنه كانت عنده أمانات كثيرة وضعها أهل مكة عنده، كان يحفظ لهم أماناتهم وأموالهم، ومع أن أهل مكة مشركون ورافضون للإسلام، إلا أنهم لم يجدوا أحداً في مستوى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يضعون أماناتهم عنده مع حربهم المستمرة له صلى الله عليه وسلم، وهذا من أغرب ما يمكنه أن يتصوره العقل!


من الأشياء التي قام بها رسول صلى الله عليه وسلم أنه كلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمهمتين كبيرتين:

 المهمة الأولى: أن ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، حتى يربك المشركين اذا أتوا لتنفيد ما خططوا له .

المهمة الثانية: رد الأمانات إلى أصحابها، ثم  أن يهاجر إلى المدينة المنورة وحده بعد أن ينتهي من المهمتين.


ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصديق  رضي الله عنه في وقت الظهيرة مغطيا رأسه ببعض الثياب؛ ففي ذلك الوقت تكون شوارع مكة خالية ووصل إلى بيت الصديق من دون أن يراه أحد. استغرب الصديق  من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، وقال: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، والصديق إلى الآن لا يعلم أنه سيهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الهجرة في هذا اليوم ليلاً.

استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم فأذن له أبوبكر، فدخل، فوجد مع أبي بكر أهله، فقال له: 

 أخرج من عندك، فقال الصديق : إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله - يعني: لا تخف منهم - فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فإني قد أذن لي في الخروج )، يعني: الهجرة.

قال الصديق  عندما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيهاجروبصحبته: ( الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة ).

لم يتمالك الصديق  نفسه من شدة الفرح، فبكى رضي الله عنه وأرضاه.

 تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ( فلم أكن أدري أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي ).

يعلم الصديق رضي الله عنه أن الموقف خطير، وأنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقاً؛ لأن الشيء الوحيد الذي كان يهمه أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وتهون أمامه كل المصاعب اذا بقي في جوار الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلمفخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين

كان الصديق قد جهز راحلتين قبل أن يطلعه الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر هجرتهما معا، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراحلة، ولكنه قال للصديقبالثمن، ودفع ثمن الراحلة الصديق رضي الله عنه.

كان أبو بكرالصديق إنساناً وكان تاجراً وكان أباً وكان زوجاً وكان مدركا لمسؤولياته، مثل أي شخص, ولا شك أنه كانت أشياء كثيرة تشغله وقد تعطله عن تلبية النداء مثل أي إنسان، الا أنه رضي الله عنه وأرضاه كانت الأوليات عنده واضحة وكان يقدر الله حق قدره فيعطي للعمل لله عز وجل القدر الحقيقي, فعاش للإسلام و للقضية الإسلامية, وكرس حياته كلها لخدمة هذا الدين، ورتب أوراقه كلها لمصلحة هذا الدين.


بنود خطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه


مكث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكرالصديق  رضي الله عنه يخططان لأمر الهجرة، فقد وضعا خطة بارعة متقنة، بذلا فيها كل طاقة وفكر، وعملا حسابهما لأشياء كثيرة.

- أولاً: لن يبيت الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته هذه الليلة، وسيخرج من بيته في أول الليل، ويترك عليا رضي الله عنه وأرضاه نائماً في سريره، ويجلس في بيت الصديق  من أجل أن يتجنب الحصار الذي قد يفرض على بيته صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن موعد اقتحام بيته لقتله صلى الله عليه وسلم الفجر.

- ثانياً: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه وأرضاه جزءاً من الليل، وسينتظرا إلى أن تهدأ الحركة في مكة تماماً، وسوف يأخذان الراحلتين وينطلقان من البيت.

ثالثاً: أنهما لن يخرجا من باب بيت بل من فتحة في خلفه لاحتمال وجود مراقبة على باب بيت الصديق؛ فالكل يعلم أنه هو الصاحب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: أن المدينة لها طريقان من مكة: 

أولهما معروف وسهل وقصير نسبياً. 

والثاني: وعر وصعب وطويل وغير مألوف، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من هذا الطريق الصعب؛ وهي طريق ساحل البحر الأحمر، لا يعرفه كثير من أهل مكة، وفرصة الهجرة بأمان في هذه الطريق أكبر.

- خامساً: ولصعوبة هذه الطريق الصحراوية التي تم اختيارها وخطورتها  لابد من استأجار دليل يكون معهما في هذه الرحلة الصعبة، الا أن الدليل لابد أن تكون عنده خبرة وأمانة، وفي نفس الوقت ولن يشك المشركون في أمره؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق اتفقا على دليل اسمه عبد الله بن أريقط، وهذا الدليل من المشركين، وكان هذا الاختيار منهما في منتهى الذكاء؛ فالمشركون لن يشكوا مطلقاً في أمره، كما أنه رجل أمين يكتم السر، وهو في النهاية صاحب مصلحة سوف يؤدي المهمة ويأخذ عليها الأجر. وأكيد أنه أجر مغري.

- سادساً: قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في أول الهجرة سيتجه نحو اليمن لا المدينة المنورة لمسافة خمسة أميال -يعني: (8) كيلو متر- للتمويه؛ لأن المشركين، سيبحثون عن رسول صلى الله عليه وسلم أولا في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.

سابعاً: أنهما سيذهبان أولاً إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار في جبل عال، والطريق إليه صعب جداً، وسيمكثان فيه ثلاثة أيام، وبعد ذلك يتحركان إلى المدينة عندما يفقد أهل مكة الأمل في العثور عليهما، وكذلك سوف يتركان الراحلتين مع الدليل عبد الله بن أريقط، من أجل ألا يرى أحد الراحلتين بجانب الغار، وعبد الله بن أريقط  سوف يقابلهما بعد ذلك عند الغار بعد ثلاثة أيام.

ثامناً: يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الوضع في مكة، وتحركات زعماء مكة، فلابد من شخص يأتي لهم بالأخبار إلى الغار كل يوم ليعدلوا الخطة لو حصل شيء مخالف لما رتبوه، فاتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق رضي الله عن عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فهو سيمكث في مكة طيلة النهار، ثم يأتي إلى الغار في أول الليل، ويجلس معهما في الغار ويخبرهما أخبار مكة، ثم يرجع إلى مكة قبل الفجرليظهر نفسه للناس كأنه بات في مكة ولم يكن خارجها.

تاسعاً: سيقوم عامر بن فهيرة  رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه وأرضاه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، فهو سيرعى الأغنام على آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وأقدام الصديق رضي الله عنه، وبعد ذلك فوق أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، حتى لا تتبع آثار الأقدام بقدر استطاعته. 

عاشراً: أن الذي سيحضر لهم الطعام والشراب فترة الثلاثة أيام في غار ثور امرأة - انها السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكانت حاملاً وفي الشهور الأخيرة من حملها، وانه من الصعب أن يتصور أحد أن امرأة حامل في شهورها الأخيرة تحمل الطعام والشراب وتسير به مسافة (8) كيلو متر من مكة وحتى غار ثور، ثم تصعد الجبل الصعب، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة! 

إنها ابنة الصديق رضي الله عنه وعنها وأرضاها.

انها الأسباب التي اتخذها رسول صلى الله عليه وسلم  و صاحبه  الصديق لكي لا يشك أحد فيما هما قادمون عليه - وبعد الأخد بالأسباب يأتي التوكل على الله (( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم )) .


حصار المشركين لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وخروجه من بينهم سالماً


عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته وبدأ يجهز نفسه، ونادى عليا رضي الله عنه، وكان في ذلك الوقت عمره (23) سنة، فأخبره بدوره:
سينام علي بن أبي طالب في سريررسول الله صلى الله عليه وسلم طوال الليل، وعليه برد الرسول صلى الله عليه وسلم الأخضر، ثم بعد ذلك وفي الصباح سيقوم باعادة الأمانات الى أصحابها.

انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت حتى الليل، ثم في أول الليل هم بالخروج والذهاب إلى الصديق، الا أنه رأى المشركين قد أتوا مبكرين عن الموعد الذي كان يظنه، ورآهم يحاصرون البيت، وعشرات السيوف تحيط بالبيت، وهو يعلم أنهم قد أتوا لقتله صلى الله عليه وسلم - فكيف يخرج؟

أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأن يخرج من وسط المشركين فان الله عز وجل سيأخذ أبصارهم، وأن يخرج أمام الناس كلهم، فلن يراه أحد منهم.

خرج رسول صلى الله عليه وسلم كما أخبره جبريل عليه السلام أن يفغل, أمام كل الناس ليلة (27) صفر سنة (14) من النبوة، خرج وهو يقرأ صدر سورة (يس) من أولها إلى قوله عز وجل:

 وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، وهو يمر بينهم, أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءاً منها على رأس كل مشرك؛ من أجل الاثبات بأن الأمر, كل الأمر بيد الله عز وجل، وأن التوفيق بيد الله عز وجل، فكانت المعجزة الظاهرة الواضحة في نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وجلس عنده حتى نصف الليل حسب الخطة التي أعدوها، وبعد ذلك خرجا من الباب الخلفي للبيت، وتسللا من مكة، واتجها جنوباً إلى غار ثور.

عندما وصلا إلى الغار دخل الصديق  رضي الله عنه وأرضاه إلى الغار أولاً، في عمل استكشافي ليطمئن أنه لا خطر في المكان، ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكونا قد نفدا جزءا من الخطة و بسلام وبتيسير من الله.

أما عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فما زال المشركون على هيئتهم وعلى رءوسهم التراب، و علي رضي الله عنه مازال نائماً بداخل البيت. وهم على حالتهم هذه, مر عليهم رجل مشرك ووجد على رأس كل رجل حفنة تراب، فاستغرب من شكلهم، فسألهم عن الأمر, فأخبروه أنهم يريدون محمداً, فقال: خيبكم الله، قد - والله - خرج عليكم.

فانزعج المشركون وتساءلواعن وجود التراب على رءوسهم، كلهم، فقاموا ونظروا من ثقب الباب، فرأوا رجلاً نائماً بالداخل وعليه البرد الأخضر، فتحيروا، وقالوا: والله إنه لنائم.

قال قائل منهم: لنكسر الباب ونرى، لكن معظم الكفار اعترضوا؛ وقالوا: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار، لا يدخلون بيتاً بغير إذن أهله!

انتظر المشركون إلى الصباح ولم يستطيعوا الدخول إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يلحقهم العيب، وبعد قليل إذا هم بعلي  رضي الله عنه وأرضاه قام من الفراش، كان المشركون حينها في منتهى الغيظ، فأمسكوا بسيدنا علي وضربوه ضرباً شديداً رضي الله عنه، وأخذوه إلى البيت الحرام ليحققوا معه، وحبسوه هناك، ومع كل هذا الضرب إلا أنه لم يجب عليهم، ومع كونه فارساً مغواراً وكان عمره في ذلك الوقت (23) سنة إلا أنه لم يقاتلهم، وذلك لأمور:

أولاً: لم يؤذن بعد للمسلمين بالقتال إلى هذه اللحظة.

ثانياً: الهلكة محققة لغياب كل المسلمين، ولن يدافع عنه أحد، واجتماع كل المشركين على بني هاشم يصعب الأمر أكثر.

ثالثاً: أن عليه مهمة عظيمة وهي رد الأمانات إلى أهلها، فلابد أن يحافظ على نفسه حتى يؤديها؛ من أجل ذلك لم يرد عليهم حكمة وفقهاً من علي رضي الله عنه.

حبس سيدنا علي ساعة من الزمن، ورأى للكفارأن من الظلم أن يحبس إنسان بدون جريرة أو بدون ذنب.

مكث علي رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم هاجر مباشرة إلى المدينة المنورة.


جهود قريش في البحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعد خروجهما من مكة مهاجرين


أعلن زعماء مكة حالة الطوارئ القصوى، وأخذوا مجموعة من القرارات:

القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر رضي الله عنه المتهم بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مختف في بيته، أو أن الصديق  يعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. والذي قام بهذه المهمة هوأبو جهل بنفسه.

أخذ أبو جهل معه فرقة من المشركين وذهب إلى بيت الصديق، وظل يطرق الباب بعنف، ففتحت له السيدة أسماء  رضي الله عنها، فسألها ٍأبو جهل : أين أبوك يا ابنة أبي بكر، 

قالت في هدوء: لا أدري، فرفع أبوجهل يده ولطم خدها حتى طار قرطها, تجاوز كبير في أعراف مكة، ومع كل هذا التجاوز إلا أن أبا جهل لم يفكر أن يدخل البيت فيبحث قيه, فزعماء مكة لا يهتكون حرمات البيوت.

القرار الثاني: إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة للامساك به صلى الله عليه وسلم.

القرار الثالث: إعلان عن جائزة كبرى لمن يأتي برسول صلى الله عليه وسلم ٍحياً أو ميتاً أو بصاحبه الصديق رضي الله عنه، والجائزة مائة ناقة، رقم مهول في ذلك الزمن. 

القرار الرابع: المطاردة، وتتبع آثار الأقدام لرسول صلى الله عليه وسلم، استخدموا قصاص الأثر في كل الطرق الخارجة من مكة، بما فيها المخارج الجنوبية البعيدة عن طريق المدينة، ومع كل طرق التأمين التي كانت في خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كون الخطة بارعة، إلا أنه ليس من طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، فلابد من وجود ثغرات؛ لذا اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي بداخله غار ثور، وصعدوا الجبل ووصلوا إلى باب غار ثور، ولم يبق لهم إلا أن ينظروا إلى داخل الغار، ولو نظروا إلى داخله سيرون الرسول صلى الله عليه وسلم و الصديق رضي الله عنه.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل الغار في سكينة تامة، لكن الصديق  رضي الله عنه كان قلقاً، يقول الصديق  رضي الله عنه: ( يا رسول الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).

إحساس بمعية الله في كل خطوة، والصديق لم يكن خائفاً على نفسه، بل خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أن الصديق قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة ).

آثار الأقدام منتهية عند فتحة باب الغار، كان من العقل أن ينظروا ما في الداخل، لكنهم لم ينظروا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطمئن صاحبه ( يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).

أما قصة العنكبوت فضعيفة من كل طرقها، وكذلك قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار.

فشلت المطاردة ورجع الكفار إلى مكة مرة أخرى وقد يئسوا من العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصديق رضي الله عنه،ومازالت المكافأة معلنة لمن يعثر على أحدهما حياً أو ميتاً.

مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقرراً في الخطة، وعبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين كل واحد منهم يقوم بدوره.

ومرت الثلاثة الأيام، وجاء الدليل عبد الله بن أريقط  بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وأحضر له ناقة وأخذوا معهم عامر بن فهيرة في هذه الرحلة المباركة.

انطلقت الرحلة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل في ليلة (1) ربيع أول من سنة (14) من النبوة، والهجرة لم تكن في محرم كما يظن كثير من الناس، إنما كانت في أواخر صفر وأوائل ربيع الأول من سنة (14) من النبوة.


خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار في الليل، وزيادة في الحذر اتجهوا جنوباً وابتعدوا أكثر وأكثر عن طريق المدينة؛ زيادة في ضمان ألا يراهم أحد أبداً، وبعد ذلك سيتجهون إلى الغرب من أجل أن يأخذوا طريق البحر الأحمر الصعب، وعندما خرجوا من الغار كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمشي بطريقة غريبة، لفتت نظر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يسير أمام الرسول صلى الله عليه وسلم تارة، ثم يسير خلفه تارة أخرى، فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الصديق  رضي الله عنه وأرضاه في حب شديد: ( يا رسول الله! أذكر الطلب - يعني: المطاردة - فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد - يعني : لو أن أحداً منتظرنا في الأمام- فأمشي بين يديك )، يتمنى الصديق أن لو جاء سهم أن يصيبه هو ولا يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. منتهى الحب لرسول صلى الله عليه وسلم، وأكملت القافلة طريقها واتجهت إلى المدينة.

مطاردة سراقة بن مالك للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه أثناء الهجرة


رأى بعض المشركين القافلة وجاءوا إلى مكة يخبرونهم الخبر، فلعل الركب هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسمعهم سراقة بن مالك، وكان يفكر في المائة الناقة التي هي لكل واحد من الاثنين، فخدع الناس، وقال لهم: هذا فلان وفلان أعرفهما، ومباشرة جهز فرسه وسلاحه وانطلق ليفوز بالجائزة الكبرى، واستطاع أن يصل إليهم، واقترب منهم، حتى إنه كان يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت - كما يقول سراقة كما جاء في البخاري - و أبو بكر يكثر الالتفات من خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما اقترب منهم حدثت المعجزة وبدأت الفرس تسيخ في الأرض مرة وثانية وثالثة، وعلم سراقة أن هناك شيئاً غريباً، يقول: فأدركت أن القوم ممنوعون. فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وذكر لهم أمر المكافأة التي جعلتها قريش فيهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخف عنا )، وبعد ذلك قال له شيء في منتهى الغرابة، قال: (  كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى ).
عجب عجاب, في هذا الموقف الصعب الذي يطارد فيه من أهل الأرض يبشر سراقة بانهيار عرش كسرى، وأنه سيأتي يوم يأخذ فيه المسلمون سواري كسرى غنيمة، وفي ذلك الوقت سراقة هو الذي سيأخذ هذين السوارين.
والأعجب أن سراقة كان يصدق بهذا تماماً، إلى درجة أنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً بهذا الأمر، حتى إذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا الشيء فسيكون معه الدليل الذي يأخذ به السوارين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة  أن يكتب له كتاباً، فكتب له على رقة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق.

كان أول اليوم جاهداً في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي آخر اليوم كان مدافعاً عنه،

 وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

والغريب أيضاً أن سراقة مع إحساسه بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يسلم إلا بعد فتح مكة وحنين، ومرت الأيام وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب وفيها سواري كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمه لعمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

خروج بريدة بن الحصيب ومن معه لمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة


لم تحصل مشاكل أخرى في الطريق إلا قبل المدينة المنورة، فقد فوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم برجل اسمه بريدة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، وقد خرج له في (70) من قومه، يريد المكافأة، ومع خطورة الموقف إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ يعرض الإسلام على بريدة  وعلى قومه في هدوء، وسبحان مقلب القلوب! وقعت كلمات الله عز وجل في قلب بريدة وأصحابه، فآمنوا جميعاً في لحظة واحدة.
ان الرسول صلى الله عليه وسلم مكث سنين في مكة من أجل أن يأتي بهذا العدد، وفي لحظة واحدة يؤمن بريدة وقومه، فالقلوب  بيدي الله سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء.

هناك أحداث أخرى كثيرة وهامة وعظيمة ولطيفة في الهجرة، لكن المقام لا يتسع لها. 


وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالماً، وكان ذلك في يوم (12) من ربيع الأول سنة (14) من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة وهامة في الدعوة الإسلامية، وهي مرحلة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.


دروس من الهجرة النبوية


دروس الهجرة لا تحصى ولا تعد، لكننا سنختار بعضاً منها، وبالذات الدروس التي لها علاقة ببناء الأمة الإسلامية.

الدرس الأول: الأخذ بالأسباب.

 بذل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه كل ما في الطاقة لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من المؤمنين، أن يعدوا كل ما يستطيعون، وليس مطلوباً منهم أكثر من هذا:

 وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، لكن نلاحظ كذلك أنه مع هذا الإعداد العظيم إلا أنه حدثت بعض الثغرات في الخطة، وهذا شيء خارج عن حدود البشر؛ إذ الكمال لله وحده.

منها:

- أن المشركين حاصروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، مع أن التخطيط أنه يخرج قبل الحصار، لكنهم أتوا قبل موعدهم الذي ظنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

- أن أحد المشركين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما خرج، وقال لزعماء مكة: لقد خرج عليكم محمد.

أيضاً: 

- المشركون وصلوا إلى غار ثور مع كل الاحتياطات التي أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم، 

- وسراقة لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق.


مثل هذه الثغرات لابد أن تحصل، لكن المهم أنك بذلت الوسع في الإعداد، وكذلك لو أنك بذلت الاستطاعة فإن الله سبحانه وتعالى يكمل العجز البشري: 

- مثل ما حدث للكفار وحصل لهم عمى مؤقت أمام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، 

- وكذلك لم يدخلوا الغار بعدما وصلوا إلى بابه، 

- وخيل سراقة التي لم تستطع المشي في الرمال، 

أشياء لم تكن في الحسبان، فالله عز وجل يعطيك هدية لو أنك بذلت وسعك.

إذاً: الدرس الأول: أن تبذل الوسع والله عز وجل سيكمل لك العجز من رحمته وكرمه سبحانه وتعالى.

الدرس الثاني: لم يعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسباب وترك رب الأسباب، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك بعد أن بذل أسبابه كاملة تحلى بقين عظيم، يقين أن ما أراده الله عز وجل سيكون حتماً، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: 

(ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، 

وظهر أيضاً في أنه لم يكن يكثر الالتفات في طريقه، فهو مطمئن إلى أن الله عز وجل سينصر رسله والذين آمنوا، ومن غير هذا اليقين لا أعتقد أن بناء الأمة سيحصل، أو أن أي نصر ممكن أن يتحقق، لابد من يقين بنصر الله عز وجل.

الدرس الثالث: لم يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطيرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، حتى في هذه الظروف يبشرسراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأخذ كنوز كسرى غنيمة.

الدرس الرابع: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته على الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عليه السلام عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الدرس الخامس: وضح لنا وظهر في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم هو الذي يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، ويطارد كما يطاردون، ويتعب كما يتعبون، ويعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ربنا سبحانه وتعالى ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالبراق الذي نقله قبل ذلك في لحظة واحدة من مكة إلى بيت المقدس.

لابد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولابد أن يسير في هذا الطريق رسول صلى الله عليه وسلم رغم كل المعاناة والتعب؛ ليعطي القدوة لكل قائد مسلم.

الدرس السادس: رأينا كيف أن الدعوة في دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مثل النفس عند عموم البشر، لا يضيع فرصة، لا يرتبط بظرف، يدعو كل من يستطيع، رأيناه كيف دعا إلى الإسلام بريدة وأصحابه من قبيلة أسلم، لم يكن همه الهروب حتى يصل إلى المدينة، بل اعتبر أن الله عز وجل قد ساق إليه هذا الرجل وقومه هدية من الله عز وجل.  دعا بريدة فأسلم بريدة، بل أسلمت قبيلته كلها. 

انما عليك البلاغ )

الدرس السابع: رأينا في هذه الرحلة استعداد الصديق رضي الله عنه وأرضاه للعمل لله عز وجل تحت أي ظرف وفي كل زمان ومكان، القضية في منتهى الوضوح عند الصديق ، أهم شيء في حياة الصديق رضي الله عنه هو أن يرضي الله عز وجل، وأن يرضي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يطلبه الله عز وجل في مكان فلا يجده، ليس هناك في حياته مكان لكلمة الظروف.

أعظم الظروف عند الصديق هو العمل لله عز وجل، والبذل والتضحية والجهاد في سبيل الله عز وجل.

الدرس الثامن: رأينا شدة محبة الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا كيف أنه لا ينتظر أمراً ولا طلباً، إنما يجتهد هو في إتقان حبه لرسول صلى الله عليه وسلم؛ يجهز له الراحلة، يبكي من الفرح لصحبته، ينظف له الغار، يسير أمامه وخلفه حماية له، وغير ذلك من المواقف التي ذكرنا بعضها ولم نذكر أكثرها.

حب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من فضائل الأعمال فحسب، بل هو من الواجبات، ومن قدم حباً على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خطر عظيم.

الدرس التاسع: رأينا بذل الصديق وعطاء الصديق ، أخذ معه في الرحلة (5000) درهم، وهي كل ما يمتلك من غير الراحلتين، وقبل ذلك أنفق (35000) ألف درهم في سبيل الله، وسيظل ينفق في المدينة، وسيظل ينفق وهو خليفة، وسيظل ينفق وهو على فراش الموت، هذا هو الصديق ، من أجل ذلك يقول الله عز وجل:

  وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].

الدرس العاشر: وهو شيء مهم لفت الأنظار في قصة الهجرة، ولابد أن نقف معه وقفة، أترون كيف استعمل الصديق عائلته بالكامل في سبيل الله؛ 

- عبد الله  ينقل الأخبار، 

- وأسماء تنقل الطعام والشراب، 

- و عامر  يخفي آثار الأقدام، 

إن الصديق استطاع أن ينقل حبه للدعوة لكل عائلته، 


الملامح العامة لبناء الأمة في الفترة المكية


تمت مرحلة هامة من مراحل السيرة النبوة بالهجرة إلى المدينة، تمت المرحلة المكية بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها، مرحلة ذات طابع خاص بدأ الإسلام فيها غريباً، واستمر غريباً إلى قرب نهايتها إلى أن آمن الأنصار.

كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة؛ لا يؤمنون إلا بالله عز وجل، لا يتوجهون بالعبادة لأحد سواه، يتوكلون عليه، ينيبون إليه، يخافون عذابه، يرجون رحمته؛ إنه إيمان عميق برب العالمين سبحانه وتعالى، واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون، وسيقوم فيه الناس لرب العالمين، يحاسبون على ما يعملون، لن يظلم في ذلك اليوم أحد، لن تغفل الذرة والقطمير، وإنها -والله- إما جنة أبداً أو نار أبداً.


وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة أيضاً الأخلاق الحميدة؛ هذبت نفوسهم تماماً، ارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.


وبالإضافة إلى العقيدة والأخلاق عرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب مليء بالابتلاءات والاختبارات، ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر، والله عز وجل يراقب العباد، يراقبهم في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم، ولن يستثنى من هذا الاختبار أحد 

يبتلى المرء على قدر دينه ).


ومع كون هذه المرحلة بكاملها كانت عبارة عن فقرات مختلفة من الإيذاء والتعذيب سواء على الروح أو الجسد، إلا أنها كانت لا تخلو من سعادة، لكن ليست السعادة المادية الحسية التي يجدها الناس في طعام أو شراب أو شهوة، لا، إنما هي 

سعادة الروح والقلب، 

سعادة الطاعة لله عز وجل، 

سعادة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، 

سعادة الصلاة ومناجاة الله عز وجل، 

سعادة الأخوة والألفة بين المؤمنين، 

سعادة الدعوة إلى الله عز وجل، 

سعادة كبيرة عندما ترى شخصاً كان يسجد لصنم، حياته تافهة حقيرة لا تساوي شيئاً، وفجأة تحول إلى عملاق من عمالقة الأرض، أي عقل وأي حكمة وأي شجاعة وأي أخلاق! 

سعادة عظيمة فعلاً، سعادة الثبات أمام كل فتن الدنيا، سواء كانت فتناً في الجسد أو الهجرة أو الإغراءات بالمال أو بالسلطة أو بالنساء.. أو غيرها من الفتن.

والثبات أمام الفتن لا شك أنه يزرع سعادة في قلوب المؤمنين.


لقد كانت الفترة المكية بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل، من المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبدر والأحزاب وخيبر وتبوك دون المرور على فترة مكة، من المستحيل أن تبني أمة صالحة، أو تنشئ دولة قوية، أو تخوض جهاداً ناجحاً، أو تثبت في ميادين القتال والنزال، أو تقف بصلابة أمام فتن الدنيا المختلفة، من المستحيل أن تفعل كل ذلك إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها.


بغير مكة لن تكون هناك المدينة، 

وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار، 

وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين.


كانت هذه هي فترة مكة الجميلة؛ لأنها تحكي قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومازالت لنا جولات مع فترة جميلة أيضاً من فترات حياة رسول صلى الله عليه وسلم، تلك هي فترة المدينة المنورة.


نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.