دراسة موجزة حـول عروبة القدس
كثيرا ما يفضل الباحثون النظر فى النتائج التى يسفر عنها أى بحث.. فإذا كانت شيقة ممتعه أقبلوا على متون الأبحاث ليقرؤوها بكل شغف واهتمام.
وهذه جملة نتائج واستنتاجات خرجت بها من أبحاث كثيرة حول عروبة القدس.. وهل هناك ما يثير الشوق والحب للبحث والإطلاع ثم ترسيخ الفكرة والإيمان بها أكثر من موضوع \"قدسنا الحبيب \" فإذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : \" من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس \".. فإن هذا قول حق وصدق.. فالنفس تتوق إلى النظر والتأمل فى مشاهد القدس وما كتب عن القدس.. وذلك كله من باب \"علم اليقين\" فكيف لو عاينّا بيت المقدس ورأيناه \"عين اليقين \"؟!!
فاللهم أعد إلينا قدسنا الحبيب.. وطهره من دنس اليهود والمشركين.. واجمع شتات العرب والمسلمين من أجل هذا الهدف المقدس.. اللهم آمين.
هناك عدد من الحقائق الهامه والبراهين الدامغة التى تثبت عروبة القدس منذ أكثر من ستة آلاف عام..
كـــــــــيفـــــــــــــــ ؟!
إن القدس وفلسطين خالصة العروبة أبدا وأزلا وما وجود اليهود فيها إلا فترة انتقالية تمثل سبعين عاما فقط أو سبعة وتسعين عاما على عهد داود وسليمان.
القبائل الكنعانية التى خرجت من جزيرة العرب تملاْ صفحات التاريخ والعهد القديم.
اسم \"العبرانيين\" الذى يطلق على بنى ابراهيم.. وقد سموا بذلك لأنهم عبروا نهر الأردن.. يدل بما لا يرقى اليه الشك أنهم غرباء دخلاء. وعلى هذا.. فإن هذا الاسم الذى تسمى به اليهود ينقض كل دعوى تقوم بالترويج للحق التاريخى وفكرة الوطن القومى لليهود.
السبعون عاما التى قضاها اليهود فى القدس تساوى سبعين عاما قضاها الاحتلال البريطانى فى مصر.. فهل أعطت السبعون عاما للانجليز حقا فى مصر ؟! .
لو طبقنا فكر اليهود واستمعنا إلى خرافاتهم فى الحق التاريخى فى القدس وفلسطين لتغيرت خريطة العالم وساغ للعرب ولمسلمين أن يطالبوا بالأندلس (أسبانيا) التى حكموها عدة قرون، ولساغ للهنود الحمر أن يطالبوا أيضا بالولايات المتحدة.
\"أورسالم\" هو أول اسم عربى يطلق على القدس بعد الاسم القديم \"يبوس\" نسبة إلى اليبوسيين من بطون العرب الأوائل الذين نشأوا فى صميم الجزيرة العربية حوالى 2500 ق. م أو يزيد.
وكان أول من اختطها من ملوك اليبوسيين \"مليكصادق\" الذى عرف عنه أنه كان محبا للسلام حتى أطلق عليه \"ملك السلام\" ومن هنا جاء اسم المدنية \"سالم\" وقد حرف هذا الاسم إلى \"شالم\" أو \"أورشليم\".
نبى الله داود أبقى على الاسم القديم \"أورسالم\" وعمرّ القدس ونشر فيها العدل.. ذلك الصنيع الذى يليق بنبى من الأنبياء.. فهل بنوا اسرائيل صنعوا كما صنع أنبياؤهم؟ .
أبو الأنبياء (ابراهيم) عليه السلام، لم يجز لنفسه أن يملك قطعة من أرض القدس ليجعلها قبرا لزوجته سارة.. كذلك فعل داود عندما أراد أن يقيم مذبحا فى أرض تخص اليبوسيين.
إذا كان ابراهيم وداود – عليهما السلام – كانا لا يملكان قطعة واحدة فى أرض فلسطين والمسلمون أحق بابراهيم وداود وموسى منهم فكيف يطالب اليهود بأرض فلسطين كلها على أساس أنها أرض الأجداد؟ وابراهيم جد العرب لأنهم نسل ابنه اسماعيل؟!.
أيها القارىْ الكريم.. إن القدس للعرب والمسلمين بحكم التاريخ والبناء والملكية.. وإليك شيئا من التفصيل..
مدينة عربية.. شـيدها العـرب
يؤكد التاريخ أن القدس مدينة عربية منذ حوالي ستة آلاف سنة، فقد سكنها (اليبوسيون) وهم فرع من الكنعانيين في الألف الرابع قبل الميلاد، ويعتبر هؤلاْء أول من أسس المدينة المقدسة حيث سموها (يبوس) في حوالي عام (2500) ق. م.
وفي عهد أحد ملوكهم (ملكي صادق) ظهرت في المدينة أول جماعة اعتنقت التوحيد برعاية ملكى صادق، فوسع يبوس وأطلق عليها(أورسالم) أي مدينة السلام، وبني فيها معبدا كبيرا سماه (بيت قدس)، لعبادة الاله الأكبر (سالم) فسميت من ذلك الوقت (بيت المقدس)، وكان هذا الملك تقيا ورعا محبا للسلام حتى أظلق عليه ملك السلام، ولما حكم (سالم اليبوسي) القدس زاد في بنيانها وشيد على جبل صهيون قلعة للدفاع عن المدينة وبقيت المدينة المقدسة عربية خالصة حتى فتحها داود عليه السلام وسماها (أورشليم) وهو تحريف عبري لاسمها العربي(أورسالم) في عهد الملك العربي (ملكي صادق)أو (مليكصادق)، وقد وفد ابراهيم الخليل الى فلسطين، فأحسن هذا الملك وفادته لأنه يدعو الى التوحيد، وقدم له الطعام والشراب كما جاء في الاصحاح (14) من سفر التكوين.
وحينما هاجر ابراهيم عليه السلام الى فلسطين كانت تسمى (أرض كنعان) لأنه كان يسكنه الحيثيون العرب وهم فرع من الكنعانيين، فنزل ابراهيم في منطقة (حبرون) وهي(الخليل) الآن وكان يشعر أنه غريب بين أهلها، حتى إن الكاتب اليهودي (جان ليجول) يقول : غريب إن أبا الأنبياء لم يجز لنفسه أن يملك قطعة أرض يجعلها قبرا لزوجته سارة، فالتجأ إلى الحيثيين أصحاب ألارض وقال لهم (أنا غريب ونزيل عندكم أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتتي من أمامي) فأعطوه مغارة كان يملكها (عفرون بن صوحر) وهي المغارة التي يقوم عليها الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل\"(1) وما حدث لإبراهيم حدث لداود عليه السلام، فقد أراد داود أن يقيم مذبحا في بيدر يخص (أورون اليبوسي) وعرض عليه ثمنا له، ولكن اليبوسي أعطاه إياه بدون ثمن. فإذا كان إبراهيم وداود عليهما السلام كانا لا يملكان قطعة واحدة في أرض فلسطين ونحن أحق بإبراهيم وموسى وداود منهم، فكيف يطالب اليهود اليوم بملكية فلسطين كلها علي أساس أنها أرض الأجداد؟ وإبراهيم جد العرب لأنهم نسل ابنه إسماعيل ؟!
وفي عام (1260) ق.م. تولي قيادة بني إسرائيل يوشع بن نون، فعبر بهم الأردن واحتل مدينة \"أريحا\" وتركها دكاء وأباد كل سكانها. ولكن العبرانيين لم يستطيعوا الإستيلاء على القدس إلا في زمن داود عليه السلام أي حوالي (1000) ق.م، فاتخذها داود عاصمة له، ثم حكم سليمان من بعد أبيه أربعين سنة (963-923) ق.م فبنى الهيكل في القدس بأيدي البنائين الكنعانيين، وكلمة هيكل ذاتها كنعانية، وهكذا لم تدم دولة اليهود الموحدة إلا حوالي (97) عاما(1020_ 923) ق.م. وهي نفس المدة التي وقعت فيها دولة الصليبيين فيما بعد تقريبا.
ويرى (الفريد جيوم)Alfend Guillaume في كتابه:
(Zionists and the Bible،Israel according to Holy Scriptures)
pp.11_12
أن الوعد الغامض المقطوع لأسباط إبراهيم بأرض الميعاد الممتدة من نهر مصر(النيل) إلى النهر الكبير (الفرات) ] سفر التكوين] [18:15 هو وعد قطعه الله لنسل إبراهيم في جميع أرجاء المعمورة، قبل مولد إسماعيل وإسحاق. وعلي ذلك فهو وعد مقطوع للعرب واليهود، من أبناء إبراهيم جميعا، ولم يقطع بأن أرض الكنعانيين هي لليهود وحدهم، أولئك الذين لم تعمر لهم الدولة.
ولم يقم كيانهم السياسي في المنطقة أكثر من سبعين عاما على عهد داود وسليمان. هذا بينما ظلت المنطقة دائما أرضا عربية، عريقة في عروبتها (2)
هذا وقد خلف سليمان ابنه (رحبعام)الذي انقسمت الدولة في زمنه إلي دولتين : مملكة يهوذا.. في الجنوب وعاصمتها أورشليم وقد عمرت من (923-586)ق.م ومملكة إسرائيل.. في الشمال وعاصمتها السامرة قرب نابلس وقد عمرت من (927- 722) ق.م.
وسيطرت الخلافات القبلية علي هاتين المملكتين، ونشبت بينهما حروب دامية حتى إن الملك (يهواش) ملك إسرائيل أغار على أورشليم واستباح هيكلها، وهكذا دب الوهن في مملكتى اليهود مما أفسح المجال أمام (سرجون) الآشوري فاستولى علي مملكة إسرائيل (722ق.م) وسبى أهلها إلى بابل، وأسكن محلهم قبائل عربية تزحف من سورية. أما مملكة يهوذا فقد قضى عليها (نبو خذ نصر) عام (586ق.م.) فأحرق أورشليم وسبى أهلها ودمر هيكلها، وغنم كل ما فيه، وقد عمل اليهود جواسيس ضد الدولة الكلدية لمصلحة (كورش) الفارسي، مما مكنه من القضاء عليها حالي عام (539 ق.م)فعلت منزلة اليهود عنده، وخاصة بعد أن تزوج اليهودية (إستير) وسمح لهم بالعودة إلي أورشليم، وبنى لهم الهيكل (516 ق.م)، ولكن لم يكن لهم أي شأن سياسى فيها، فقد ظلت السيطرة الفارسية حتى فتحها الإسكندر المقدوني عام (332 ق.م) وبقيت القدس تحت حكم اليونان حتى استولى عليها القائد الروماني (بومبي) عام (63ق.م)، وفي عام (130 م) وفي عهد الإمبراطور (هارديان) قام اليهود بثورة في القدس فسحقها بعنف وأبدل إسمها وسماها (إيلياء) وحرم علي اليهود دخولها أو السكن فيها، وفي عام (624م) إجتاح الفرس فلسطين واحتلوا (إيلياء) وذبحوا آلاف النصارى فبها وهدموا كنيسة القيامة.
وقد ساعدهم اليهود على ذلك، بل شاركوهم جرائمهم فقتلوا الكثير من النصارى، ولكن (هرقل) استرد القدس عام (627 م) وبقى بيت المقدس تحت الحكم الرومانى حتى فتحها المسلمون عام (15 هـــ - 636 م) فى عهد الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب).. ويوم توجه عمر إلى القدس ليستلمها من بطريركها الأكبر (صفرونيوس) وجدا البطريرك يبكى، فقال له مواسيا : (لا تحزن هون عليك فالدنيا دواليك يوم لك ويوم عليك)، فقال صفرونيوس : أتظننى بكيت لضياع الملك؟! والله ما لهذا بكيت، إنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية ترقى ولا تنقطع فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنت أحسبها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين
الوجود اليهودى فى فلسطين.. متأخر جدا..
لقد حافظت فلسطين أو القدس على كيانها العربى سنين عددا.. ولقد ظلت أزمانا تحافظ على وحدتها وتضعف أزمانا أخرى ولكن حياة العرب فيها من الكنعانين لم تختف بما وقع لها من غزوات العبرانيين أو الفرس أو اليونان أو الرومان. وكل ما فى الأمر أنها بلاد قد تداولتها أيدى الغزاة، دون أن تفقد أهلها وأصحابها.
لقد حدث مبدأ الوجود العبرانى فى مدينة القدس (يبوس) بعد أكثر من ألفى عام من وجودها.. وبذلك تبين أن حجة اليهود فى أنهم أحق بفلسطين أو بالقدس لأنهم كانوا يملكونها حجة واهية لسببين :(3)
أن هذا السبب فى منطق الأعراف الدولية والشرائع لايعتبر، وإلا لترتب على ذلك تغيير خارطة العالم ولساغ للعرب والمسلمين أن يطالبوا بالأندلس (أسبانيا) التى حكموها عدة قرون ولساغ للهنود الحمر أن يطالبوا أيضا بالولايات المتحدة.
على فرض صحة هذا المنطق غير السليم فإن وجود العرب فى هذه المدينة أقدم من الوجود اليهودى .
.. كيفـــــــــــــــــ؟!
لقد جاءت علاقة اليهود بأرض فلسطين متأخرة جدا... فأرض فلسطين عرفت فى التاريخ القديم وحتى عام 1200 ق.م بأرض كنعان، واطلاق هذا الاسم جاء فى التوراة نفسها فى الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين. كما أطلق عليها هذا الإصحاح نفسه أرض فلسطين.
وإذا أردنا أن نتعرف على أقدم السكان فى هذه المنطقة فإننا ينبغى أن نعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد لنرى أفواجا من القبائل العربية تهاجر من شبه الجزيرة العربية إلى الشمال تحت ضغط القحط وقسوة الصحراء، ويقول CHARLES KENT إن (الفينيقيين) كانوا أسبق هذه الجماعات المهاجرة، وقد وجدوا على شاطىْ البحر المتوسط مستقرا لهم فأقاموا به، وكان مقرهم شريطا ساحليا ضيقا يحده البحر من الغرب وتعزله السلاسل الجبلية بالشرق عن باقى المنطقة، ومن هنا اتجه هؤلاء إلى البحر فركبوه واتصلوا عن طريقه بدول كثيره عن طريق التجارة، وسرعان ما أصبح هؤلاء جنسا شهيرا فى سيادته التجارية عبر البحار، ثم امتد نشاطهم فأصبحوا حملة الحضارة بين دول العالم القديم. وإلى الجنوب من الفينيقيين نزلت قبائل عربيه أخرى أشهرها قبائل (الكنعانيين) حوالى سنة (2500 ق.م) واستقرت على ضفة الأردن الغربية منسابة نحو البحر المتوسط وسميت هذه المنطقة باسمهم فأصبحت تدعى (أرض كنعان) وهو الاسم الذى يكثر وروده فى التوراة. وحوالى سنة (1200 ق.م) نزلت بالساحل المطل على البحر الأبيض جماعات من جزيرة كريت (أقريطش) وكانت هذه الجماعات أو القبائل تسمى قبائل (فلستين) وقد نزلت بين يافا وغزة. واختلط الكنعانيون بالقبائل الوافدة من (كريت) وتم بين هؤلاء وأولئك مزيج غلب عليه الدم العربى واللغة السامية من جانب، والاسم الوافد من كريت من جانب آخر، وأصبحت هذه البلاد تعرف بفلسطين.
ويرى J.W.smith (4) أن العرب فى العصر الحديث هم الذين يمثلون ملامح الساميين القدماء الجسمانية، أما اليهود فإن صلاتهم مع الحيثيين بآسيا الصغرى وتبادل الزواج معهم قد أثر فيهم وأخفى منهم كثيرا من الملامح السامية.
ورئيس الأروقة السامية التى دخلت فلسطين قادمة من العراق هو إبراهيم الخليل – عليه السلام وقد نشأ فى أور الكلدانيين، وثار إبراهيم على عبادة الأصنام وصناعتها التى كان يزاولها أبوه كما حدثنا القرآن الكريم فى سور كثيرة فهاجر من بلدان الكلدان إلى أرض كنعان، وأطلق أهل كنعان على إبراهيم ورفاقه (العبريين) لعبورهم نهر الفرات إذ لم يكونوا قد عبروا نهر الأردن بعد، أو لأنهم بدو متجولون يعبرون من واد إلى واد.
متــى تمت هذه الرحلة؟
يرى أكثر الباحثين أنها تمت حوالى سنة 2000 ق.م، ويرجح بعضهم حدوثها سنة 1850 ق.م. ومن الواضح أن رحلة هؤلاء لم يكن يقصد بها الاستقرار، وإنما كانت فلسطين إحدى المحطات فى رحلتهم التى لم يكن لها هدف ‘إلا البحث عن مواطن العشب والماء هنا وهناك، ومن هنا فقد استأنفوا رحلتهم إلى مصر، وهنا تنقطع صلتهم بهذه الأرض، حتى جاؤوها غزاه بقيادة (يوشع بن نون) حيث استولى على (أريحا) وقتل جميع سكانها ودمرها وقومه عن آخرها، وذلك فى أواخر القرن الثالث عشر ق.م. وتذكر التوراة أن غزوهم لفلسطين صادف مقاومة باسلة عنيدة من الكنعانيين أو الفلسطنيين أصحاب البلاد. ويذكر سفر صموئيل الأول 2:4(واصطف الفلسطينيون للقاء اسرائيل، واشتبكت الحرب، فانكسر اسرائيل أمام الفلسطنيين، وضربوا...) ويذكر هذا السفر أيضا أن اسرائيل.. \"هربوا كل واحد إلى خيمتهم وكانت الضربة عظيمة جدا وسقط من اسرائيل ثلاثون ألف رجل\"(5)
غربة اليهود
وتؤكد لنا التوراة أيضا غربة اليهود عن القدس، ففى سفر القضاه 11:19 و 13 تجد قصة رجل غريب وفد مع جماعة له إلى مشارف (يبوس) \".. وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جدا، قال الغلام لسيده : تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه، ونبيت فيها، وقال له سيده : لانميل إلى مدينة غريبة، حيث لا أحد من بنى اسرائيل هنا\" (6)
إذن.. فقد دخل اليهود (يبوس)في عصر متأخر جدا، على يد داود عليه السلام، واضطر أهل البلاد الأصليين إلى التعايش مع الغزاه مرغميين ويؤكد المؤرخ \" برستد \" أنه حتى فى الفترة التى كان لإسرائيل فيها كيان ونفوذ فى (يبوس) وفى عصرهم الذهبى من داود إلى سليمان عليهما السلام كان ملك اسرائيل آن ذاك بمثابة والى على فلسطين تحت السيطرة المصرية (7).
ومما سبق يتبين أن داود وسليمان عليهماالسلام لم يكونا مؤسسى مدينة القدس، وإنما كان غازيين لها بعد ألفى سنة من وجودها، وكانت عمارتهم لها بعد ذلك كما يقول صاحب الأنس الجليل \"تجديد البناء القديم \" (8)
ضعف ارتباطــ اليهود بأرض فلسطين
وليس أدل على ضعف ارتباط اليهود بأرض فلسطين من أن زعماء الصهيونية فى العصر الحديث عندما بدأوا يفكرون فى بناء وطن قومى لهم، ساغ لبعضهم أن يتجهوا بتفكيرهم إلى بلاد أخرى غير فلسطين، فهذا البارون هيرشى اليهودى الألمانى الذى يرى أن الأرجنتين هى أصلح مكان يمكن أن تقام عليه دولة اليهود.
بل إن هيرتزل نفسه كان على استعداد لقبوله فى سوريه أو البرتغال أو سيناء أو قبرص أو العريش أو موزمبيق أو طرابلس أو أوغاندا أو الكونغوا أو الأرجنتين.لولا أن بادرت المصالح الاستعماريه إلى ربط عجلتها بالمطامع الصهيونية فتكاتفتا على إحداث المأساة. (9)
أيها القارىْ الكريم... لو أرجعنا البصر إلى الماضى، تبينا أنه لم يكن لليهود وجود مذكور فى فلسطين إلى القرن التاسع عشر طوال ثمانية عشر قرنا، فضلا عن انتهاء الحكم اليهودى فيها منذ القرن السابع قبل الميلاد وقد كان هذا الحكم فى واقعه حلقة من سلسلة الغزوات الأجنبية فى فلسطين وسائر البلاد العربية. هذا الحكم كما أوضحنا من قبل لم يستمر سوى فترات متقطعة، لا تتجاوز سبعين عاما. كما علمنا أنه بعد انتهاء العصر الذهبى لليهود فى عهد داود وسليمان عليهما السلام. لم تقم لليهود قائمة.. بل إنه صفى عدة مرات، أشهرها التصفية التى تمت أثناء العهد الرومانى فى القرن الأول الميلادى، ومنذ فجر الإسلام استكملت فلسطين عروبتها واسلامها، شأن سائر البلاد العربيه الإسلامية، وانتهى بالإسلام الحكم الروماني في فلسطين، بعد الحكم السلوقي، والحكم اليوناني أو المقدوني، والحكم الكلداني، والحكم الآشوري، والحكم اليهودي...
وقد ذكر السائح اليهودي بتاحيا : أنه لم يكن في القدس حين زارها لأواخر القرن الثاني عشر الميلادي سوى يهودي. وقال موسى بن نحمان جيروندي اليهودي: إنه لم يجد في القدس عندما نزل فيها لأواخر القرن الثالث عشر سوى عائلتين يهوديتين...
وتدل سجلات المحكمة الشرعية في القدس على أن عدد اليهود في فلسطين كان (115) في عام 1572، و (150) في عام 1688.. ولم يتجاوز عددهم ذلك بكثير، طوال القرن الثامن عشر، ظهرت الزيادة في القرن التاسع عشر، إبان المد الاستعماري الأوروبي وظهور الحركة الصهيونية. (10)
القـدس.. مقدسة طــاهرة في كنف المسلــــــــــمين..
لم يفرق المسلمون، زمن حكامهم الورعين، بين أصحاب الديانات السماوية، كما لم يفرقوا بين أنبياء الله، وصارت لهم ذمة ترعى وعهد يحفظ، وقامت فى بيت المقدس حضارة روحانية فذة، وتلاصقت المساجد والكنائس والمعابد، وارتفع اسم الله عاليا، واطمأنت القلوب وانشرحت الصدور، ولم يخل الحال من أوقات ضيق عانى منها جميع السكان، ولكنها لم تشتد حتى تبلغ محاكم التفتيش أو حرق المعابد ومحو آثار الأنبياء.
وأراد اليهود في هذه المرحلة السمحة أن يحرفوا اسم المدينة الكنعانى القديم، فأطلقوا عليها اسم \" يروشالايم \" بدل \" يروشالم \" بإضافة لاحقة عبرية كي تصبح عبرية النطق،(11)
ولكن جميع الشواهد الأثرية والتاريخية واللغوية تثبت أن الاسم كنعاني قديم، وأن التحريف طارىْ.
وغلب على المدينة، بعد فتح الاسلام، اسم بيت المقدس، أو (البيت المقدس) وهو دليل صدق على أن من استعمله أراد لهذه المدينه أن تكون مقدسة طاهرة خالصة لله تعالى، يؤمها المؤمنون جميعا للعباده والطهاره، وأن ينتهى عهد الحرق والتدمير والتحريم والتفتيش.
دام حكم المسلمين 13 قرنا، خلا قرنا واحدا تمكن فيه الصليبيون من الاستيلاء على أجزاء من فلسطين وعلى البيت المقدس، وهذه أطول مدة فى تاريخ المدينة المقدسة ذاقت فيه حلاوة الاستقرار، وأطلقت حرية العبادة لجميع الطوائف دون استثناء وعنى المسلمين بالمدينة عناية فائقة، لأربعة أسباب :
الأول: لأن الله خصها بالعديد من الأنبياء ابتداءا من أبيهم إبراهيم عليه السلام إلى عيسى بن مريم صلوات الله عليه. عن بن عباس قال.. (البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، وما فيه موضع شبر إلا وقد وصلى فيه نبى أو قام فيه ملك) (الأنس الجليل 1/311).
الثانى: لأن الله خصها بإسراء رسوله وحبيبه المصطفى، فقال فى كتابه العزيز :(سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) (الاسراء /1).
الثالث : لأن فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، روى الطبرى فى تاريخه عن قفاده قال:(كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله – صلى الله عليه وسلم بمكه قبل الهجرة. وبعد ما هاجر رسول الله نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا) (تاريخ الطبرى 2/265 والأنس الجليل 1/172)
وروى البخارى قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدى هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)(حديث البخارى 382).
وروى السيوطى فى الجامع الصغير : (عن زهير بن محمد بلاغا عن النبى –صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات وخص فلسطين بالتقديس)(ج1 ص 227)
الرابع : لأن المسلمين عدوا المدينة الثغر الذى يمكن أن ينفذ منه العدو إلى الكعبة المشرفة وقبر رسول الله.
ولذا ما استقر بهم الأمر حتى بادروا إلى سد هذا الثغر وحمايته كى يدرؤا عنهم خطرا مروعا.
ولهذه الأسباب الأربعة لم يمض عهد من عهود الإسلام إلا أضاف المسلمون إلى المدينة جديدا، وأصلحوا قديما.
بنوا فى عهد عبد الملك بن مروان مسجد الصخرة، وأنفقوا عليه خراج مصر لسبع سنوات. ثم بنوا فى عهد ابنه المسجد الأقصى أو مسجد عمر، فكانا من أجمل وأروع ما بناه المسلمون فى حواضرهم، بل من أجمل ما خلده الفن المعمارى من آثار فى العالم. وأوقفوا عليهما معظم الأراضى المحيطة ببيت المقدس. وتقرب الخلفاء والأمراء والصالحون إلى الله تعالى لتعمير هذين المسجدين وخدمتهما، وإضافة العديد من المساجد والقباب والمحاريب والأروقة والمآذن والمدارس حتى أصبحت بيت المقدس متحفا لا مثيل له، يعلو اسم الله فى كل جنباتها.
يـزعمـــون !!
ويزعم الاسرائيليون اليوم أن بيت المقدس لهم بمثابة الرأس للجسم، ونحن نسأل أين بيت المقدس هذه التى يتحدثون عنها ؟ إنها أورشليم التاريخية التى هدمها الرومان مرتين، وأزالوا اسمها من الوجود، وهى التى تنبأ السيد المسيح بخرابها حين قال لها : \" يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا\" وحين قال لأحد تلاميذه : \" انتظر هذه الأبنيه العظيمة لا يترك حجر على حجر لا ينقض \". بل إن نبيهم سليمان تنبأ لها بهذا المصير، حين قال لهم : \" فإنى أقطع اسرائيل عن وجه الأرض التى أعطيتم إياها والبيت الذى قدسته لإسمى أنفيه من أمامى \".
أورشليم تلك اندثرت بسببهم هم، ثم جاء المسلمون وفتحوا المدينة ولم يأخذوها من اليهود، بل أخذوها من الرومان أعداء اليهود وحافظوا على كنائسها ومعابدها، وفى أثناء الحكم الإسلامى وحده شرع اليهود يعودون إليها ويقومون فيها المعابد والمعاهد وفق الشروط التى وضعها الاسلام لأهل الذمه، ثم إن المسلمين فى أثناء الاثنى عشر قوما التى حكموا فيها فلسطين اتخذوا بيت المقدس عاصمة لها وتملكوا أرضها بالطرق الشرعية. وأوقفوا أكثرها على الخير والبر والعباده، ولم تهدم المدينة ولم تحرق طوال حكمهم، ثم إنهم بنوا المساجد والمدارس والزوايا والتكايا بأموالهم، وظلوا فيها مرابطين صابرين، واختلطت دماؤهم وعظامهم بترابها
فبأىّ حـق.. بعد هذا يدّعى الاسرائليون اليوم أنها مدينتهم المقدسة ؟
إذا كان بحق التاريخ، فالتاريخ يحكم بأن مدينتهم اندثرت كلية منذ ثمانية عشر قرنا، وإذا كان بحكم البناء فالتاريخ يحكم أن المسلمين هم الذين بنوا وعمروا، وإذا كان بحكم الملكية فالتاريخ يحكم أن المسلمين هم الممتلكو ن مدة اثنى عشر قرنا ومن قبلهم العرب منذ الألف الرابع قبل الميلاد.
المنشاوى الوردانى
هـــــــوامــــــــــش
(2) انظر : د.عزالدين فوده، قضية القدس، ص 17.. وفترة كيان اليهود هي (97) عاما اذا حسبناها من سنة (1020-923) ق.م بداية جلوس الملك شاؤول علي العرش كملك يحكم ولكنه لم يحكم قبضته تماما إلا على القبائل الشمالية.. و(70)عاما اذا حسبناها في فترة حكم داود وسليمان من بعد سنة (1000- 923) ق.م : وانظر في ذلك أيضا (الصهيونية وفلسطين، د. سيد نوفل، مجمع البحو ث الإسلامية بالقاهرة، 1968، ص139
انظر فى تفصيل ذلك.. تاريخ قبة الصخرة لعارف العارف ص 19، مكانة القدس فى الإسلام لعبد الحميد السايح، القاهرة 1968، ص 71، 72.
انظر د. عبد الحليم محمود، بيت المقدس فى الاسلام، مجمع البحوث الاسلامية بالقاهرة. من ص 11 وما بعدها.
القدس، سامى حكيم ص 13 وما بعدها والمسلمون واسترداد بيت المقدس، د. محمد الفحام، 1970، ص 11.
المصدر السابق ص 11 وما بعدها.
المصدر السابق ص 13 وما بعدها.
المسلمون واسترداد بيت المقدس، ص 11.. والأنس الجليل، لمجير الدين الحنبلى، القاهرة، 1283 هـ
انظر : بيت المقدس فى الاسلام لعبد الحليم محمود والصهيونية وفلسطين للسيد نوفل.. واستشهاده بتصريح لصحيفة \" يونيتيه ناسينونال\" الفرنسيه فى عددها 4/1953 الصادر فى مونتريال بكندا.
المصدر السابق د. سيد نوفل ص 139، 142.
د. إسحاق الحسينى، بحث عن مكانة بيت المقدس فى الاسلام، مجمع البحوث الاسلامية بالقاهرة، 1968، ص 59. وكما عرفنا من قبل الاسم العربى الأول للمدينة هو \" أورسالم\" أو \"يوروسالم\" أو \"يوروشالم\" أى منشأة الاله سالم أو شالم. ومن \" يوروسالم\" جاء الاسم الغربى Jerusslem المستعمل فى اليونانية واللاتينية والألمانية والفرنسية والأنجليزية، ومن هذا الاسم أيضا جاءت \"أورشليم\" الوارده فى الكتاب المقدس.. ويلاحظ أن التحريف قديم وحديث.
المنشاوى الوردانى
مترجم بالتليفزيون المصرى