سلسلة السيرة النبوية_هجرة الحبشة الأولى
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية المطهرة.
أسباب الهجرة إلى الحبشة والحكمة منها
- تحدثنا عن أساليب الكفار المتنوعة في صد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين عن طريق الدعوة والإسلام.
- وتحدثنا عن ثبات المؤمنين وصبرهم على التعذيب الشديد الذي حدث في أرض مكة في بيت الله الحرام، حيث تفرغ الكفار لحرب المؤمنين، وبدا واضحاً أن النية هي الاستئصال للطائفة الوحيدة التي تعبد الله حق العبادة على الأرض.
هذه مسئولية ضخمة تقع على عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتْباعه:
- أن يصلوا بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعاً،
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:١٠٧]،
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما بعثت لكم خاصة وللناس عامة )، وقد اشتد التعذيب بالمؤمنين في مكة، وكاد المسلمون أن يستأصلوا بالكلية، حينها يظهر حل عملي لإنقاذ الدعوة من الهلاك، وهو نوع من الأخذ بالأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطط تخطيطاً بشرياً لإنقاذ الدعوة ولإنقاذ المؤمنين.
فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسيلة جديدة لمجابهة طغاة مكة، ولم يكن في مقدور المؤمنين آنذاك أن يقاتلوا المشركين، فقد نهاهم الله عز وجل عن ذلك بقوله:
{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:١٠٦].
الهجرة إلى الحبشة للمحافظة على الدعوة
كانت الوسيلة الجديدة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء أو استئصال للدعوة - خطوة تكتيكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبقتها إشارات جاءت في كتاب الله عز وجل، فقد أنزل الله عز وجل سورة الزمر، وكان فيها:
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:١٠].
أرض الله واسعة، ولا تفضل أرض أخرى بأنهار أو أشجار أو أموال أو أهل وعشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يمكن أن يعبد فيها الله عز وجل دون فتنةأو ارهاب .
الهجرة وترك الديار والعشيرة ليس أمراً سهلاً - القرار صعب، ويحتاج إلى نفوس خاصة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار أنهم يتركون بلادهم وقد استقرت أوضاعهم فيها - سيتركونها إلى بلد آخر قد يكون فيها مجهول مصيرهم - كل هذا لا لشيء إلا لعبادة الله عز وجل.
لم يهاجر المؤمنون سعياً وراء الرزق، ولكن في ظاهر الأمر أنهم سيفتقدون الرزق - الا أنهم موقنون مما وعدهم الله عز وجل من رزق حسن في الجنة، أيقنوا في قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحج:٥٨ - ٥٩]. ووعده الحق - بالإضافة إلى أنه قد علم المؤمنون أن الرزق بيد الله كما قال سبحانه
{ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات:٢٢].
ونقف وقفة نحاول فيها الإجابة على سؤال هام: هل قرر المسلمون الهجرة للحفاظ على الدعوة أم على الدعاة؟
واقع الأمر أن أهم شيء في حياة المؤمن هو الدين، والمقصد الأول من المقاصد التي جاء الشرع لحمايتها هو الدين، ومن أجله يضحى بكل شيء - فيبذل المؤمنون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكن لا يبذل المؤمنون دينهم للحفاظ على أرواحهم،
فال الله تبارك وتعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة:١١١].
إذاً: السبب الأول في الهجرة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو حماية الدعوة، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل للدعوة محضناً آخر غير مكة، بحيث إذا استؤصل الدعاة في مكة تبقى طائفة أخرى في مكان آخر لاستمرار الدعوة.
إذاً: لم يكن السبب الأول في الهجرة هو الحفاظ على أرواح الدعاة، وإن كان هذا أمراً هاماً، ويؤيد هذا الرأي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يهاجر الصحابة رضوان الله عليهم للحفاظ على الدعوة لا على الدعاة، والذين طلب منهم أن يهاجروا كانوا من القرشيين، ولم تطلب الهجرة من الذين كانوا عبيداً، إنما هاجر القوم الذين يتمتعون بعصبية وقبلية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة، ولم يهاجر الموالي والمستضعفون، ولو كان الهدف الأول هو حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء.
سبب هجرة أشراف مكة من الصحابة إلى الحبشة
لماذا هاجر الأشراف دون البسطاء؟
-أولاً: هذا أدعى لحماية المهاجرين، فأمر الهجرة أمر خطير، قد تطارد مكة فوج المهاجرين، بل بالتأكيد ستطاردهم، وقد يتهور أهل مكة ويقتلون المهاجرين، وخصوصا اذا كانوا من العبيد، أما إذا كانوا من الأشراف فلن يفكروا في قتلهم لقوة قبائلهم.
ثانياً: أن الأشراف أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ لأن من طبائع البشر السماع للشريف إذا تكلم - والغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وسيستقبل المهاجرون في هذه الحالة على أنهم وفد سياسي محترم معارض لسياسة مكة، بدلاً من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم الباحثين عن لقمة غيش كريم في بلد أخر.
ثالثاً: هجرة الأشراف ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة، ستفيق أهل مكة على خطورة أفعالهم،
فهجرة الأشراف ستكون صدمة لأهل مكة وهزة اجتماعية خطيرة - قد ينتبهون على أثرها إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم - فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم من خيرة أهل البلد، ومن أكثر الناس سعياً لإصلاحها، ومن أعرق البيوت، ومن أشرف الناس.
أما إذا هاجر المستضعفون فلا ضيرفما هم الا عبيداً تركوا البلد
وهكذا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتصرف بحكمة بالغة - يدفع المشركين دفعاً إلى تحريك عواطفهم وقلوبهم؛ لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله عز وجل، لهذه الأسباب هاجر الأشراف ولم يهاجر الضعفاء.
ولم يكن الهدف الأول من الهجرة حماية الأرواح ولكن حماية الدعوة والدين.
سبب مكث المهاجرين في الحبشة إلى ما بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
متى عاد المهاجرون من الحبشة إلى الصف المسلم من جديد في فترة مكة أم في فترة المدينة؟
- كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة في العام الخامس من البعثة في شهر رجب - ثم عاد المهاجرون سريعاً إلى مكة بعد ثلاثة أشهر.
- ثم هاجروا من جديد هجرتهم الثانية إلى الحبشة في السنة السابعة، ولكنهم مكثوا في الهجرة الثانية طويلاً - مدة تزيد على (١٥) سنة متتالية ولم يرجعوا إلا بعد غزوة خيبر.
مرت أحداث في غاية الأهمية والخطورة على المسلمين في بناء الأمة الإسلامية، ومع ذلك لم يرجع المهاجرون من الحبشة، ولم يكن هذا اجتهاداً شخصياً من المهاجرين، بل كان بأمر من قيادة المسلمين المتمثلة آنذاك في رسول الله صلى الله عليه وسلم،
- مرت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، ومر تأسيس الدولة الإسلامية، وكان البناء صعباً، وكان عدد المسلمين قليلاً، والعدد في الحبشة كبيراً تجاوز الثمانين، وهم قوة لا يستهان بها،
- مرت غزوة بدر وعدد المهاجرين في غزوة بدر كان نفس عدد المهاجرين إلى الحبشة، ومع ذلك لم يطلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- مرت الغزوات العظام بدر ثم بنو قينقاع ثم أحد ثم بنو النضير ثم الأحزاب ثم بنو قريظة، ثم صلح الحديبية وهوالحدث الكبير العظيم والهام.
وبعد صلح الحديبية أمن المسلمون على أنفسهم، وأصبحت لهم دولة لها كيان محترم تعقد به الأحلاف والمعاهدات على أعلى مستوى، يرهب جانبها ويحترم رأيها، فهنا شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أصبح من الصعب استئصال المسلمين، لقد كان ممكناً في أي لحظة قبل صلح الحديبية أن يستأصل المسلمون، وأقرب مثال على هذا غزوة الأحزاب؛ حيث أراد الكفار الإنهاء الجذري للإسلام في المدينة، لكن الله عز وجل كتب النصر للمؤمنين، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الآن نغزوهم ولا يغزونا ).
عندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول لحظات الأمان في المدينة أرسل في طلب المهاجرين في الحبشة، أرسل إليهم عمرو بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، فجاءوا في العام السابع من الهجرة بعد فتح خيبر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأمور بحكمة سياسية رائعة، كان يحافظ على نواة للمسلمين هناك في مكان آخر بعيد مثل الحبشة، فإذا هلك المسلمون في المدينة حمل المهاجرون في الحبشة اللواء، وكان المسلمون في الحبشة يقومون بدور المخزون الإستراتيجي الهام للمسلمين، وكانوا على استعداد للرجوع إلى المدينة في أي لحظة إذا طلبت منهم القيادة ذلك.
كانت الأدوار موزعة على المسلمين بدقة، طائفة من المسلمين يقومون بالبناء هناك في أواخر الفترة المكية، وفي فترة المدينة هذه الطائفة معرضة لخطر شديد تقابل الموت في كل لحظة، وهناك طائفة أخرى كامنة في الحبشة، في ظاهر الأمر هم غير معرضين للأذى، لكن مهمتهم في غاية الخطورة، لقد كان عليهم أن يحملوا الدعوة بمفردهم إذا هلك المسلمون في المدينة، وقد يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً وتصبح الأمانة معلقة في رقابهم وحدهم، وهنا يتضح أمران:
- الأول: أن هذا التوزيع للأدوار تم بمعرفة قيادة المسلمين المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هناك طاعة عظيمة جداً من الطرفين:
-الطرف الذي يعمل في المدينة،
-والطرف الذي يعمل في الحبشة،
ولو ترك الأمر لكل فرد لدخل الهوى في الاختيار.
- قد يكون هوى المرء أن يظل بعيداً عن أرض القتال هناك في الأمان في الحبشة.
- وقد يكون هوى المرء أن يعمل للإسلام بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لفد وزع القائد صلى الله عليه وسلم الأدوار على المسلمين، وأطاع المسلمون في أدب جم، و بدون شرط لأن في الإسلام يعمل الجندي لله عز وجل.
- والثاني: أن المسلمين المهاجرين في الحبشة لم يكونوا في حالة ركون أو فتور، بل كانوا في إعداد وتدريب مستمر، لقد كان مستوى الإيمان لديهم رائعاً، وكان الاستعداد النفسي للعودة والمشاركة والوقوف في الصدارة ومواجهة الموت كاملاً، يثبت ذلك أنهم لما جاءتهم إشارة العودة عادوا دونما ضجر ولا اعتراض ولا إبطاء ولا طلب لفترة تجهيز وانتقال، ولما وصلوا إلى المدينة انخرطوا في الصف بسرعة، وحملوا المشاق مع المسلمين وكأنهم عاشوا معهم كل التجارب السابقة، حتى إنهم لما وصلوا إلى المدينة علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح خيبر، وهي على بعد مائة كيلو في شمال المدينة المنورة، فتوجهوا جميعاً إلى خيبر للمشاركة في الغزو فوجدوها قد فتحت، وسر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً، وقال:
(والله ما أدري بأيهما أفرح)، وفي رواية: (بأيهما أسر بفتح خيبر أم بقدوم
جعفر رضي الله عنه وأرضاه كان أمير المهاجرين في الهجرة الثانية للحبشة، ورأينا جعفر بن أبي طالب نفسه بعد أن عاد بـ (13) شهراً فقط خرج مجاهداً في سبيل الله في سرية مؤتة وكان أحد قوادها، وقاتل دون تردد، وأقدم دون إحجام، وثبت دون فرار، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه دون خوف أو وجل، لقد جاء جعفر رضي الله عنه وأرضاه من الحبشة جاهزاً للقتال في سبيل الله.
لقد كانت فترة الحبشة إعداداً وتربية للمسلمين، ولم تكن هروباً من الواقع.
إذاً: الهجرة إلى الحبشة كانت لإنشاء مركز جديد للدعوة يضمن لها الاستمرارية والبقاء، وكانت وسيلة جديدة في مواجهة أساليب البطش في أرض مكة.
أسباب ومزايا اختيار الحبشة دون غيرها للهجرة إليها
لماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبشة بالذات ليهاجر إليها المسلمون؟
لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فكر كثيراً في المكان الذي يمكن أن يرسل إليه المسلمين.
- ولعل أقرب الأماكن إلى الذهن هو أن يرسلهم إلى مكان في الجزيرة العربية عند قبيلة من القبائل، فقد كانت هناك تجمعات قبلية كبيرة وكثيفة وكثيرة في جزيرة العرب، هناك ثقيف في الطائف، وهوازن في حنين، وبنو حنيفة في شرق الجزيرة، وعبس وذبيان في شمال المدينة وغيرها كثير، وهذه القبائل تتميز بكونها تعيش في ظروف مقاربة جداً لظروف المسلمين في مكة، ولن يشعر المسلمون بتغير كبير في طبيعة الحياة، كما أنهم يتكلمون العربية، بالإضافة إلى قرب المسافة، فإذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين قدموا سريعاً، هذه كلها مزايا موجودة في هذه القبائل.
لكن هذه القبائل كانت كلها مشركة، وإن لم تعلن العداء السافر للمسلمين، إلا أنها كلها تكنُّ قدراً عظيماً جداً من الاحترام لقريش، ولاشك أن القرشيين لو طلبوا المسلمين ما ترددت هذه القبائل في دفعهم للكفار من أهل مكة - فاختيار القبائل المحيطة بمكة في جزيرة العرب لم يكن اختياراً سليماً،
- ولعله صلى الله عليه وسلم أيضاً فكر في يثرب التي أصبحت بعد ذلك المدينة المنورة، لكن يثرب في هذه الآونة لم يكن فيها مسلم واحد، كما أنها بلد متقلب بسبب الحروب بين الأوس والخزرج، كما أن اليهود يسكنون منذ زمن في هذه البلاد، وتاريخ اليهود لا يبشر بأي خير.
- ولعله صلى الله عليه وسلم قد فكر في العراق حيث القبائل العربية الكثيرة التي تعيش في هذه المناطق، مثل: بني شيبان، ولكن هذه القبائل بالإضافة إلى كونها جميعاً مشركة فإنها على ولاء شديد وتحالف مع الفرس، وعادة ما يكره الملوك الدعوات الإصلاحية، فلن يرحب كسرى فارس بهذا القدوم للمسلمين.
- ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً قد فكر في الشام أيضاً فهناك قبائل عربية تعيش فيها، مثل: قبائل الغساسنة، لكنها على الجانب الآخر موالية للروم، ولن ترحب أيضاً باستقبال هذه الدعوة الجديدة،
- ولعله أيضاً قد فكر في مصر، لكن مصر برغم أن بها ملكاً معتدلاً وهو المقوقس إلا أنها محتلة من الرومان، ولا تملك في ذلك الوقت من أمرها شيئاً.
- ولعله أيضاً صلى الله عليه وسلم قد فكر في اليمن، لكنها كانت محتلة من قبل فارس، ولن يقبل الفرس بقدوم المسلمين.
لاشك أنه صلى الله عليه وسلم فكر في كل هذه الأماكن؛ لأنها قريبة ومنطقية وغالبها عربي باستثناء مصر، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يجدها مناسبة؛ لذا جال وبرز في ذهنه صلى الله عليه وسلم الاختيار الأخير، والذي يبدو عجيباً في نظر الكثيرين حتى في نظر المعاصرين له صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختيار هو الحبشة.
لقد كان اختيار الحبشة عجيباً، وإن دل على شيء فإنما يدل على سعة اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى حكمته في نفس الوقت، والحبشة وإن كان بها بعض العيوب الملموسة إلا أن مزايا الاختيار تفوق عيوبها.
💨- فمن عيوب الحبشة:
- أنها بعيدة عن مكة، وهذا يصعب الاتصال والمراسلات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مجموعة المهاجرين.
- اختلاف اللغة، فهي مختلفة بالكلية عن اللغة العربية.
- اختلاف العادات والطبائع لأهل الحبشة مختلفة كثيراً عن عادات العرب، مما قد يؤدي إلى الصعوبة النسبية في الحياة هناك
الميزة الأولى:
كان الحاكم في الحبشة عادلاً - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ) - لم يعلق الرسول صلى الله عليه وسلم على شيء في حياة الرجل ولا دينه، ولكن علق على عدله.
ما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بين من أهل مكة - لكن ملك الحبشة النجاشي رحمه الله كان عادلاً، وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بغض النظر عن ديانتهم أو حبهم أو كراهيتهم - فالعدل أساس من أسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا والآخرة.
فكان من سعة الأفق للرسول صلى الله عليه وسلم وشمول النظرة واطلاعه على أحوال البلاد المحيطة به وعمق الفكر الذي يمتاز به صلى الله عليه وسلم - فاختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية لأصحابه - وهذه كانت الميزة الرئيسية في أرض الحبشة.
الميزة الثانية:
يعيش في أرض الحبشة نصارى، والمسلمون كانوا يشعرون بقرب إلى النصارى، فهم أهل كتاب أيضاً، وظهر ذلك واضحاً من تعاطف المسلمين مع الروم في حربهم ضد فارس الوثنية، وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أن قلوب النصارى ستكون أقرب إلى الدعوة من غيرهم، وقد نزل القرآن بعد ذلك بسنوات عديدة ليؤكد على هذا المعنى:
وللأسف فإن معظم النصارى في أرض الحبشة في ذلك الوقت كانت لهم اعتقادات منحرفة نتيجة التحريف في التوراة والإنجيل، ولكن بعضهم كان ما يزال صحيح الاعتقاد، ومن
هؤلاء النجاشي رحمه الله، وهذا أفاد كثيراً كما سنرى في التعامل مع المهاجرين المسلمين.
الميزة الثالثة:
أن الحبشة بلد بعيد عن مكة، ومع أن هذا يعتبر عيباً من كونه يصعب الاتصال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المهاجرين، إلا أنه في ذات الوقت يوفر جانباً من الأمان للمهاجرين، فهم بعيدون عن أهل الباطل في مكة.
الميزة الرابعة:
أن الحبشة بلد مستقل ليس لأحد عليه سلطان، نعم هو يتبع الكنسية المصرية في الإسكندرية لكن هذه تبعية دينية وليست سياسية، فليس هناك خطورة من أن يملي قيصر الروم أو كسرى فارس.. أو غيرهما رأياً على أهل الحبشة.
الميزة الخامسة:
أن الحبشة بلد قوي في المنطقة، وأهل مكة كانوا يعظمون هذا الملك جداً، وكان بينهم وبينه سفارات ومراسلات وهدايا، وهذا قد يكون عيباً لولا أن ملك الحبشة يتصف بالعدل، فكونه يتصف بالقوة والعظمة مع العدل فهذا يوفر حماية أكيدة للمهاجرين، وقريش من المستحيل أن تفكر في غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين كما فعلت بعد ذلك في المدينة في غزوة الأحزاب؛ لأن عوامل قوة الحبشة وقوة الملك وبعد المسافة والبحر تحول دون هذا التفكير، وأقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن ترسل سفارة رسمية تطلب المهاجرين، فإن كان الملك عادلاً، فإنه ولاشك سيرفض تسليم زواره وضيوفه.
الميزة السادسة:
أن الحبشة بلد تجاري وعنده قوة اقتصادية معقولة في ذلك الوقت، ولا يخشى عليه من حدوث أزمات اقتصاديه نتيجة قدوم المهاجرين، وهذا ولاشك سيوفر للمؤمنين أماناً واستقراراً، وفي نفس الوقت لا يغير من نفسيات أهل الحبشة، فلن يشعروا بأزمة تذكر نتيجة هجرة المسلمين إليهم.
لهذه الأسباب مجتمعة كان اختيار الحبشة اختياراً موفقاً، وبدأ المهاجرون بالفعل يتجهون إلى هناك ليبدأ ما يسمى في السيرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة.
وقفات مع الهجرة إلى الحبشة
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (١٤) مؤمناً أن يهاجروا إلى الحبشة:
- (١٠) رجال
- و (٤) نساء هن زوجات.
كانت هذه هي الطليعة الأولى من المهاجرين، وأنا أريد أن أقف وقفتين في غاية الأهمية عند هذا الموقف.
الوقفة الأولى:
من أول من هاجر من المسلمين؟ أسماؤهم تحتاج إلى وقفة طويلة، فالأول:
⬻ هو عثمان بن عفان الأموي رضي الله عنه وأرضاه وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا له من موقف، أعمق وسيلة من وسائل التربية هي وسيلة التربية بالقدوة، لقد أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوامره بالهجرة وترك الديار، ثم لم يعزل نفسه صلى الله عليه وسلم عن الأذى من هذه الهجرة، فها هي ابنته السيدة رقية حبيبة قلبه صلى الله عليه وسلم تهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين، بل تسبق المهاجرين، ويذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين,
رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدعاش مع أصحابه وخالطهم، وفرح بما يفرحون به، وتألم مما يتألمون منه، شاركهم في طعامهم وشرابهم وسعيهم وقتالهم، فامتلكت قلوبهم.
⬻ الاسم الثاني في هذه الهجرة كان أيضاً من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه جعفر بن أبي طالب الهاشمي القرشي رضي الله عنه وأرضاه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر هو وزوجته السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها.
وكذلك بقية الأسماء معظمهم من أصحاب الشرف والمكانة والمنعة مثل:
⬻ عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة.
⬻ والزبير بن العوام من بني أسد.
⬻ وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم.
⬻ وأبو حذيفة بن عتبة من بني عبد شمس.
⬻ ومصعب بن عمير من بني عبد الدار،
⬻ وعثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه من بني جمح
وهكذا معظم المهاجرين من أشراف مكة.
الوقفة الثانية:
أن المسلمين أخذوا بكل الأسباب الممكنة لضمان نجاح عملية الهجرة، لم يقولوا: نتوكل على الله عز وجل وندعوه، ثم نسلم أمرنا بغير إعداد، لا، بل أخذوا بكل الأسباب التي في أيديهم.
⬻ أولاً:
خرج المسلمون في سرّية كاملة ولم يعلموا أحداً أبداً بهجرتهم.
⬻ ثانياً:
لم يخرجوا مجموعة واحدة، بل خرجوا متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم.
⬻ ثالثاً:
لضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً من أنفسهم، اختار لهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه من بني جمح.
⬻ رابعاً:
التنوع الملموس من قبائل مكة.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج من كل قبيلة رجلاً، وبذلك لا تستطيع مكة أن تتحزب ضد قبيلة معينة، لقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قبيلة واحداً، فأصبح الموقف صعباً على أهل مكة.
ومن ناحية أخرى سوف يكون لهذا الوفد تأثير واضح على ملك الحبشة، فهذا الوفد المكون من خليط من قبائل مكة كأنه سفارة رسمية تمثل شعب مكة.
لن يخطر أبداً على ذهن النجاشي أن هذه حركة قبائلية بحتة، بل لها صبغه الدعوة الدينية الأخلاقية التي لا تفرق بين قبيلة و قبيله - وهذا سيكون أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند ملك الحبشة.
في هذه الهجرة أخذ صلى الله عليه وسلم بكل الأسباب المادية وفي كل أموره.
خرج المؤمنون من مكة خفية، واجتمعوا عند ساحل البحر، ولكن مع كل هذا استطاع أهل مكة أن يعرفوا وجهتهم وأن يلحقوا بهم؛ فحرب الحق والباطل ليس لها نهاية إلى يوم القيامة، هنا كان من الممكن أن تجهض محاولة الهجرة، ولكن المسلمون ابتهلوا إلى الله عز وجل أن ينجيهم مما لحق بهم، فسخر الله لهم سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة فركب المسلمون في إحداهما، وانطلقوا باسم الله في وسط البحر، ولم يستطع المشركون أن يلحقوا بهم - فالكون بيد الله عز وجل يصرفه كيف يشاء.
وصل المسلمون بأمان إلى الحبشة، وكما توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلهم النجاشي خير استقبال، وجلسوا عنده في أكرم حال، ولم يلقوا عنتاً ولا إيذاء ولا مشقة.
قصة إسلام حمزة وعمر وسجود المشركين لآية سورة النجم وأثر ذلك على المسلمين في مكة والحبشة
بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة حدثت في مكة أمور عظام في ظاهرها بسيطة، ولكنها محطات تغيير هامة ليس في أوضاع مكة فقط، بل في خريطة العالم.
مما حدث في مكة:
1 - إسلام حمزة وعمر
⬻ أولاً: آمن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
⬻ ثانياً: بعده بثلاثة أيام فقط آمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وستحمل الأيام مفاجآت عظيمة لأهل الأرض جميعاً، سيرون كيف أن هذا الرجل البسيط عمر الذي آمن في هذه البلدة الصغيرة مكة سيقود جيوش المؤمنين ليكسر شوكتي فارس والروم، وليوحد أطراف العالم في خلافة واحدة، آمن الفاروق في مكة فحدثت تغييرات جذرية في سياسة المؤمنين، منها ما يتعلق بقضية الهجرة إلى الحبشة، آمن عمر بن الخطاب فظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثير من المسلمين إسلامهم، بعد أن أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقلّ إلى حد كبير التعذيب الوحشي الذي كانت تقوم به قريش للمؤمنين، وعاش المسلمون في مكة لحظات عظيمة من السعادة التي لم تمر بهم منذ زمن طويل، سعادة بإسلام البطلين العظيمين الجليلين: حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وسعادة بإحساس الأمان النسبي الذي شعر به المسلمون للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات، وسعادة بشعور العزة والفخر بهذا الدين وباتباعه.
طارت أنباء هذه السعادة إلى الحبشة، وتواصلت قلوب المؤمنين في الحبشة مع قلوب المؤمنين في مكة وشعروا بنفس السعادة، وشعروا فوقها بسعادة العودة إلى أرض الوطن وإلى أرض الأجداد والعشيرة وإلى البيت الحرام، شعر المسلمون أن وقت العودة إلى مكة سيكون قريباً إن شاء الله.
2 - انبهار المشركين بروعة الكلمات والآيات
تزامن مع حدث إسلام البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما حدث آخر عجيب تم في مكة في ساحة البيت الحرام في رمضان من السنة الخامسة من البعثة، كان من أسلوب الكافرين لمنع الناس من التأثر بكلام الله عز وجل أن يمنعوا أنفسهم من السماع أصلاً؛ لأنهم يعلمون أنه لو سمع أحدهم القرآن فقد يؤمن به: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت:٢٦].
كانت هذه هي سياستهم، ولكن في رمضان من السنة الخامسة من البعثة حدث هذا الموقف الغريب:
كان المشركون مجتمعين في البيت الحرام، وكان معهم المؤمنون أيضاً، وكان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف في وسط الناس وبدأ يقرأ سورة من سور القرآن الكريم تلاوة عليهم، وهي سورة النجم كاملة:
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } [النجم:١ - ١٢].
فانبهر المشركون بروعة الكلمات والآيات، وبالكلام العجيب الذي لا يقدر عليه بشر، ولم يحركوا ساكناً، نزلت الآيات كالقوارع على قلوبهم، خرست الألسنة، وتسمرت الأقدام، وتعلقت العيون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يكمل القراءة بصوته العذب، بل بدأ يقرأ آيات تسفه أصنام قريش وآلهتهم المزعومة
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى* أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى* تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى* إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [النجم١٩-٢٣].
ومع أن الآيات تهين آلهة قريش وتحقر من شأنها إلا أن المشركين لم ينطقوا بكلمة، بل ظلوا يستمعون القرآن وقد انبهروا انبهاراً كاملاً، وأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة بكاملها إلى أن وصل إلى آخرها، حتى قرأ آية السجدة:
{ أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [النجم:57-62]،
ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد المؤمنون، ولكن المفاجأة الكبرى أن المشركين أيضاً سجدوا جميعاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد طارت قلوبهم وذهلت عقولهم، ثم قاموا بعد السجود وقد أرعبتهم المفاجأة، ماذا فعلنا؟
لقد لمس الإيمان قلوبهم لحظة، ثم نكسوا على رءوسهم.
اجتمع المشركون في مكة ممن لم يحضر المشهد في البيت الحرام، وأخذوا في إلقاء اللوم والتأنيب على المشركين الذين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسقط في يد المشركين، ماذا يفعلون؟ ثم غلب عليهم شيطانهم وأوحى إليهم أن يفتروا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبماذا كذبوا؟ لقد أشاعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأ آيات معينة تعظم من شأن اللات والعزى، ولذلك لما جاءت آية السجود سجدوا تعظيماً لآلهتهم، افتروا هذه الفرية؛ ليخرجوا بها من الإيمان الذي دخل قلوبهم رغماً عن أنوفهم.
قرار عودة المهاجرين من الحبشة إلى مكة والآثار المترتبة على ذلك
وصل إلى أسماع المسلمين في الحبشة أن مكة قد آمنت ودخل أهلها في الإسلام، قالوا: لقد آمن حمزة وعمر رضي الله عنهما، وظهر المسلمون، وصاروا أعزة، ثم سجد المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً بما يقول، وقد أصبحت مكة الآن مسلمة، فما الفائدة من البقاء في الحبشة بعد إيمان مكة؟
كيف حدث هذا الخطأ عند المسلمين في أرض الحبشة
كان على المهاجرين أن ينتظروا رسالة واضحة من قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان سيرسل إليهم حتماً أن المصلحة في أن يعودوا إلى مكة، لكن هذا لم يحدث، وعاد المسلمون وركبوا البحر لمسافات طويلة، وجاءوا إلى مكة وقلوبهم ترقص من الفرحة، ثم كانت الصدمة القاسية، لقد اكتشفوا أن الخبر كان مجرد إشاعة!
مر المسلمون بمعاناة كبيرة بسبب هذه العودة التي لم يأذن لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن بفضل الله كان المسلمون على حذر كافٍ عندما اقتربوا من مكة، فقد انتظروا إلى الليل، ووقفوا خارج مكة، وأرسلوا رسولاً، وجاء لهم بالخبر أن أهل مكة ما زالوا مشركين.
اجتمع المسلمون وعقدوا مجلساً للشورى، وخرجوا من اجتماعهم بثلاث توصيات، واستقروا على أن يقسموا عليهم هذه التوصيات الثلاث.
التوصية الأولى: أن يعود غالبيتهم مرة ثانية إلى الحبشة دون دخول مكة.
وهذا أمر شاق على النفس، ولكنه سيكون أكثر أمناً.
التوصية الثانية: أن يدخل بعض المسلمين إلى مكة سراً متخفين لقضاء بعض المصالح لهم ولبقية المهاجرين، ثم العودة بعد ذلك إلى الحبشة، ومفهوم ذلك أنهم لن يبقوا في أرض مكة إلا فترة بسيطة؛ لأن مكة مدينة صغيرة ومن المستحيل أن يختبئ فيها رجل عن عيون الناس لفترة طويلة.
التوصية الثالثة: أن يدخل بعضهم إلى أرض مكة جهاراً ولكن في جوار واضح وحماية معلنة، حتى لا يعرض للقتل أو للتعذيب الشديد، وهؤلاء سوف يشرحون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال الحبشة، ويتبادلون الخبرة مع مؤمني مكة بخصوص أمر الهجرة.
وتم بالفعل هذا الاتفاق وعاد الغالبية إلى الحبشة دون دخول مكة، ودخل بعضهم مكة سراً ثم عادوا بعد ذلك إلى الحبشة ودخل بعضهم مكة في وضوح.
أما الذين دخلوا مكة في إعلان فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم، فدخل عثمان بن عفان الأموي في حماية قبيلته القوية بني أمية، أما عثمان بن مظعون فقد دخل في جوار الوليد بن المغيرة المشرك وهو من قبيلة بني مخزوم، وذلك لأن قبيلة عثمان بن مظعون بنو جمح وكانت من أشد القبائل محاربة له شخصياً، وكان من أشدهم عليه أمية بن خلف الجمحي لعنه الله.
فدخل عثمان بن مظعون في إجارة الوليد بن المغيرة، وكانت إجارة غير مشروطة، وقد قلنا بأن المشركين قد رفعوا أيديهم نسبياً عن المسلمين بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ولكن جدت أمور جعلت المشركين ينشطون من جديد لتعذيب المسلمين.
أولاً: أن سجود المشركين في الكعبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب بلبلة في أرض مكة، ومن كان متردداً في الإيمان فلابد أن يفكر الآن بجدية، وبالذات في ظل الحماية المادية والمعنوية التي يقدمها فارسا قريش حمزة وعمر رضي الله عنهما؛ لذلك فكرت قريش في إعادة البطش والتعذيب لمنع المد الإسلامي الجارف في مكة.
ثانياً: وصلت إلى مكة أنباء الاستقبال الحافل والكريم الذي قدمه النجاشي للمهاجرين المسلمين، وهذا رفع من معنويات المسلمين من ناحية وأحبط معنويات الكفار من ناحية أخرى، فمشركو مكة كانت لهم علاقات تجارية وصداقة مع النجاشي، ولاشك أن هذه الأمور قد تتأثر بالصداقة والوفاق الجديد مع المسلمين، لهذا قررت مكة أن تنشط في مواجهة الدعوة.
فماذا فعلت؟
💨- الوسيلة الأولى: منع المؤمنين من السفر
قررت قريش منع المؤمنين من السفر، وقامت بتشديد الحراسة على مخارج مكة، ومطاردة كل من خرج من المؤمنين من مكة، ووضعوا على قائمة الممنوعين من السفر كل من عرف عنه الإيمان أو اشتبه في إيمانه، كل هذا لوقف الهجرة إلى الحبشة.
لماذا يمنع المشركون المسلمين من الهجرة؟
أولاً: أن المؤمنين اتخذوا من الحبشة موطناً ومحضناً ليربى فيه المسلمون؛ ليعودوا أشد قوة؛ لأن المؤمنين أصحاب قضية، ولن يرضوا بالحياة المستريحة في الحبشة ويتركوا قضيتهم، وكما ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد بعث لقومه خاصة وللناس عامة، ولابد أن المؤمنين سيبذلون قصارى جهدهم ليصلوا بهذه الدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولاشك أن مكة ستكون من أهم النقاط في محطة المؤمنين، ولابد أن يرجع المؤمنون إلى أرض مكة.
ثانياً: أن المؤمنين سيغيرون علاقة الحبشة بمكة، ويجعلونها لصالحهم، فأهل الحبشة إذا رأوا أخلاق المؤمنين ونضجهم ونقاءهم، فإنهم سيستنكرون بشدة أفعال الذين عذبوهم، وقد يقطعون علاقاتهم السياسية والاقتصادية بمكة، وهذا فيه ضرر كبير بهم.
ثالثاً: خاف أهل مكة من أن أهل الحبشة يدخلون في الإسلام، ثم يقبلون على مكة بعد ذلك لغزوها، وقريش ليست لها طاقة بحرب دولة الحبشة وجيش الحبشة وملك الحبشة، وليس ببعيد من أهل مكة ما حدث من أبرهة الأشرم وهو مجرد تابع لملك الحبشة كان على منطقة اليمن.
رابعاً: كانت قريش تخشى من انتشار المد الإسلامي في خارجها، فدعوة المسلمين مقنعة، ودينهم قيم، وقرآنهم معجز، ولو تركت لهم حرية الدعوة فلاشك أن أصحاب الفطر السليمة سيدخلون في هذا الدين.
إذاً: فليمنع المسلمون من السفر، ولتحدد إقامتهم في أرض مكة، هكذا فكر أهل الباطل في مكة.
هذه كانت وسيلة منع المسلمين من الخروج من مكة.
💨- الوسيلة الثانية: التعذيب الشديد من جديد
الوسيلة الثانية التي استخدمها أهل الباطل في مكة قبل ذلك لمنع الدعوة هي التعذيب الشديد من جديد، وسيلة العاجز الضعيف المهزوم، والانتكاسة البشعة في الإنسانية، انقلبوا على كل من بقي من المسلمين في أرض مكة يعذبونهم،
ولم يستطع حمزة وعمر رضي الله عنهما كأفراد أن يقوموا بحماية المؤمنين من هذه الحرب القرشية المنظمة.
في هذا الموقف العصيب، وتحت هذا الضغط القرشي الظالم، وخوفاً من استئصال عامة المسلمين في لحظات الغضب والتهور غير المحسوب وغير المدروس، في هذا الموقف الصعب أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره بالهجرة مرة ثانية إلى أرض الحبشة.
- المرة الأولى هاجر (10) رجال و(4) نساء ثم عادوا إلى مكة، ثم عاد بعضهم إلى الحبشة من جديد،
- أما في هذه المرة فقد صدرت الأوامر بهجرة أكثر من (80) رجلاً مسلماً أو (82) أو (83) وكان فيهم عمار بن ياسر، وهاجر أيضاً: (18) امرأة (11) قرشية و(7) غير قرشيات، هذا غير الأطفال.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كقائد مسئول له أهداف واضحة ومحددة، والرؤيا عنده واضحة، فهو يتحرك بمرونة سياسية وفقهية عالية.
الأهداف واضحة، والدعوة لابد أن تصل إلى عموم الناس، والدعوة لن تصل إلى الناس إلا عن طريق الدعاة، والدعاة وصلوا إلى مرحلة من الإيذاء يصعب معها استمرار الدعوة.
فليكن اذا القرار الحاسم الجريء في الوقت المناسب هجرة أكثر من (80) مسلماً، وهو ما يمثل نصف الطاقة الإسلامية تقريباً في ذلك الوقت، وهو قرار إستراتيجي خطير،
- موازنة بين الهجرة وترك الديار ونقل ميدان العمل إلى الحبشة، - وبين البقاء في مكة واستمرار الدعوة، مع التضييق الشديد الذي تمارسه قريش،
الله عز وجل خلق النبات الضعيف ليناً طرياً مرناً، يميل النبات مع الريح حتى لا ينكسر، ثم عندما يشتد عود النبات ويصبح شجرة راسخة لها جذور ثابتة مهما اشتدت قوة الرياح من حولها.
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار الجريء، وكان هذا القرار أصعب مائة مرة من قرار الهجرة الأولى.
لماذا كان هذا القرار صعباً؟
وماذا فعل المسلمون في طريقهم من مكة إلى الحبشة في هجرتهم الثانية؟
وكيف استقبلهم النجاشي رحمه الله؟
وماذا كان رد فعل أهل مكة عندما علموا بهذه الهجرة الكبيرة إلى أرض الحبشة؟
وما هي الدروس العظيمة المستفادة من هذه الهجرة العظيمة الثانية إلى الحبشة؟
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ