اذ لم يصبح هناك منطق ولا عقل ولا حجة { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [المطففين:٢٩ - ٣٣].
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلس حوله المستضعفون من المسلمين، قال المشركون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟!
هكذا سخرية بدون حجة وبدون دليل،
وإذا دخل عليهم فقراء المسلمين، قالوا: هؤلاء ملوك الأرض، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لأهل مكة: قولوا كلمة واحدة - لا إله إلا الله، محمد رسول الله - تملكوا بها العرب والعجم.
فيقولون: هؤلاء هم ملوك الأرض الذين سيملكون العرب والعجم.
جلس عقبة بن أبي معيط لعنه الله مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فرآه أبي بن خلف فظن أنه آمن، فذهب بعد ذلك يقول له: أنت آمنت، قال: لم أؤمن؟ فلم يصدقه، وقال له: حتى تثبت لي أنك لم تؤمن بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم لابد أن تبصق في وجه محمد، فقام عقبة لعنه الله وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق في وجهه!
هكذا فعلوا مع أحب الخلق إلى الله عز وجل.
★- تجربة المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
لكن مع هذه الضغوط من شتى الأنواع ازدادت حركة الدعوة في مكة بصفة عامة، وازداد عدد المسلمين، وشعر المشركون بأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فبدءوا بعمل مفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يلتقوا في منتصف الطريق, وقدموا التنازلات، كما يقال: { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم:٩]،
- قدموا اقتراحين للرسول صلى الله عليه وسلم:
> أما الأول فيمكن أن نسميه بالعبادة المشتركة:
قالوا: هلم يا محمد فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر.
يعني: أنت تعبد هبل واللات والعزى، ونحن أيضاً نعبد إلهك في نفس الوقت، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منها .
> الاقتراح الثاني كان على نفس المستوى من السطحية، فبعض المشركين تقدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يكون هناك ما يسمى بعبادة التناوب:
يعني: نعبد إله محمد سنة، وهو يعبد إلهنا سنة، فنزل قول الله عز وجل يقطع الطريق تماماً على هذه المفاوضات الطفولية، وقال:
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } [الكافرون:١]،
المرة الوحيدة التي قال الله عز وجل فيها: (الْكَافِرُونَ)، ليقطع السبيل على كل كافر يساوم المؤمنين على أمر العقيدة
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون:١ - ٦]،
بذلك أغلق الباب على هذه المفاوضات الهزلية.
★- وسيلة التعذيب الجسدي
أخدت الدعوة تزداد، والمسلمون يتكاثرون ولم تجد قريشاً حلاً إلا أن تلجأ إلى السلاح المعتاد في أيدي أهل الباطل، ألا وهو سلاح الإيذاء والتعذيب والتنكيل.
سبحان الله، ووالله ما هو إلا سلاح الضعفاء، فهم يخفون ضعفاً شديداً في نفوسهم - يخفون ضعف العقيدة والإيمان والحجة والبرهان، وضعف الشخصية والحكمة والرأي - وضعف الأخلاق والضمير.
لقد قست قلوب الكافرين، وانطلقوا يفترسون المؤمنين والمؤمنات وليس لهم جريمة إلا كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف حال الكافرين مع المؤمنين: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج:٨]،وهذا حال الكفار في كل مكان وفي كل زمان.
💨- مرّ بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه بسلسلة مضنية من التعذيب، كان أمية بن خلف عليه لعنة الله يعذبه، تعذيباً معنوياً وبدنياً لا ينقطع، فقد كان أمية يضع في عنقه حبلاً ثم يأمر أطفال مكة أن يسحبوه في شوارع وجبال مكة، ولم يكن هذا لمدة يوم أو يومين، بل كان لفترات طويلة إلى أن ظهر أثر الحبل على عنق بلال رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمية يمنع عنه الطعام، ويغدو به إلى الصحراء في مكة، ويضعه على الرمال الملتهبة في صحراء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة لا يقوى على حملها إلا المجموعة من الرجال فتوضع على صدر بلال، وهو يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، لكن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه صبر، وكان كثيراً ما يكرر: أحد أحد.
ولما سئل: لماذا هذه الكلمة بالذات؟ قال: كانت أشد كلمة على الكفار، فكان يريد أن يغيظهم بها.
صبر بلال رضي الله عنه وأرضاه وما بدل وما غير، إلى أن اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه بعد ذلك، ومرت الأيام ونسي الألم، لكن بقي الأجر، يذهب الألم ويبقى الأجر، كل شيء يذهب، الدنيا كلها تذهب، لكن يبقى الأجر والثواب.
💨- ياسر وسمية رضي الله عنهما والدا عمار بن ياسر رضي الله عنهم عذبا تعذيباً شديداً، وكان أبو جهل عليه لعنة الله يعذبهما مع عمار بنفسه، وزاد العذاب فوق الحد، إلى أن وصل الأمر أن قتل ياسر وسمية رضي الله عنها في بيت الله الحرام، وليس لهم أي ذنب إلا إنهم أناس يتطهرون، وذنبهم أنهم أناس صالحون يريدون أن يعبدوا ربهم بالطريقة التي شرعها الله.
☀ نتائج الابتلاء في العهد المكي وفي كل عهد
حرب الحق والباطل سنة من سنن الله عز وجل - ستبتلى الأمة المؤمنة بصفة عامة - وسيبتلى كل فرد من أفرادها بصفة خاصة - لن يكون هناك أي استثناء.
يقول الله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت:٢]،
لابد من الابتلاء ولابد من الفتنة؛ حتى تحدث ثلاثة أشياء مهمة:
- تنقية
- وتربية
- وتزكية.
الأمر الأول: تنقية الصف المسلم:
ما أسهل أن يقول المرء بلسانه آمنت وصدقت وأيقنت، لكن للصدق برهان - لابد من ابتلاء الدعاة والملتزمين بنهج الله عز وجل ونهج رسوله الكريم -هذه سنة ماضية لتنقية الصف المؤمن من المنافقين { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }
[العنكبوت:٣].
الأمر الثاني: التربية:
يريد ربنا سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تقود العالمين، وقيادة العالمين تحتاج إلى طراز فريد من البشر لا يهتز أمام العواصف، والابتلاء.
انه برنامج تدريبي متدرج للمؤمنين، يرتفع بمستوى المؤمن يوماً بعد يوم، وكلما عظمت مهام المؤمن ازداد بلاؤه؛ ليزداد إعداده كالذهب كلما اصطلى بالنار كان أنقى.
هكذا المسلم الصادق يخرج من الابتلاء أقوى لحمل المهام والتكاليف الجسام.
هذه أشياء رأيناها في التاريخ، ورأيناها في الواقع، وستظل إلى يوم القيامة سنة من سنن الله عز وجل.
الأمر الثالث: التزكية:
التزكية تطهير من الذنوب والخطايا.
أحيانًا يرفع الله سبحانه وتعالى من درجت الانسان بصبره على البلايا الدرجات العلى ما كان ليبلغها بعمله.
( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )،
لابد من ابتلاء، وسيظل الابتلاء إلى يوم القيامة.
تنقية للصف المسلم، وتربية للصف المسلم، وتزكية للصف المسلم - ( ليميز الله الخبيث من الطيب )
☀ أسباب صبر الصحابة على الأذى في العهد المكي
كانت السمة المميزة لجميع الصحابة: الصبر على الأذى وتحمل الاضطهاد في سبيل الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين أن يردوا عن أنفسهم ذلك الأمر؛ للأمر الصريح من الله عز وجل: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:١٠٦].
وكان المشركون يعذبون ويشردون ويذبحون - والمسلمون صابرون، بل أمروا ألا يردوا إيذاء، ولا يحملوا سلاحاً، ولا يرفعوا ضيماً، ولا يكسروا صنماً، ولا يسبوا مشركاً،
{ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام:١٠٨].
قتل ياسر وقتلت سمية والرسول صلى الله عليه وسلم يمر من أمامهم وهم يقتلون فيكتفي بقوله:
( صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة ) - ولم يمسك بيد أبي جهل ولم يجمع الصحابة ليقوموا بثورة أبداً.
لابد أن هناك طرق سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعلم الصحابة، فدين الإسلام ليس فيه ضلالات أو أوهام، فكل شيء فيه واضح - وان الأسباب التي جعلت الصحابة ومن بعدهم يتحملون هذه الآلام المضنية في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الدعوة واضحة كذلك وقد نلخصها في ما يلي:
💨 -1: تعظيم قدر الله في قلوب المؤمنين
نجد القرآن المكي يتكلم كثيراً عن تعظيم قدر الله عز وجل، يتحدث عن صفات الله عز وجل - عن جبروت الله عز وجل - عن عظمة الله عز وجل - عن قدرة الله عز وجل - عن أن الله عز وجل بيده كل شيء ولو كان سيصيبك ضر لابد أنه سيصيبك - ولو اجتمع أهل الأرض لحمايتك فلن ينفعوك - وعلى العكس لو أراد بك الرحمة لابد أن تحدث - وإن اجتمع أهل الأرض ليمنعوك منها - يقول الله في سورة الأنعام المكية: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأنعام:١٧].
المسلم يتعذب كل هذا التعذيب وهو منتظر الجنة في الآخرة، لكن الظالم يتعذب في الدنيا بالطريقة التي يريدها ربنا سبحانه وتعالى، وفي الآخرة يعذب في جهنم، عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة.
لقد عظم الصحابة الكرام قدر ربنا سبحانه وتعالى فا ستسهلوا التضحية من أجل الله عز وجل.
💨-2: قيمة الآخرة في قلوب المؤمنين رفيعة.
تربيى صف المؤمنين على التحمل والجلد والصبر، وتوسيعت مداركهم ، وعلموا المقياس الحقيقي بين الدنيا بكل ما فيها من مصاعب ومشاق وألم وعمل، وبين الآخرة وما فيها من خلود.
وكان هذا العلم علماً يقينياً؛ لأجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أول يوم لدعوته للناس ( والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً )..
لشدة يقينهم بوعد الله, عاش الصحابة في الجنة وهم لا يزالون في الدنيا - سمعوا قول ربنا سبحانه وتعالى: { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان:١٢].
في بيت الأرقم بن أبي الأرقم سمعوا هذه الآيات والتعذيب ينتظرهم في الخارج - وقارنوا ألم فترة زائلة بالخلود في نعيم لا مثيل له
{ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } [الإنسان:١٢ - ٢٢].
أسمع موقف حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه لما طعن بالرمح في ظهره فخرج من صدره - قال: فزت ورب الكعبة!
دخل الرمح من ظهره و خرج من صدره ولم يبالي بالألم ولم يعظمه - بل عظم ما عند الله وعظم قيمة الآخرة وكله يقين بأن الله يدخل الشهيد الجنة بغير حساب.
💨-3: دراسة تاريخ الأمم و الذين خلوا من قبل.
صورة متكررة في كل صفحات التاريخ، وسنة من سنن الله عز وجل - انها حرب واحدة بين الحق والباطل - لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن المكي من القصص المشيرة إلى ذلك.
يقول الله سبحانه وتعالى:
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [القصص:٤].
- علو للباطل في فترة من الفترات مع التعذيب والتشريد وقتل وإبادة لأهل الحق - فصبر وجلد وتحمل وعزيمة من المؤمنين.
- ثم في النهاية انتصار للحق وتمكين له، وهزيمة للباطل وهلاك له.
يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص:,٦.٥].
صورة تكررت قبل مكة - وفي مكة وستتكرر إلى يوم القيامة.
فإذا تكررالصبر سيتكرر التمكين لا محالة -وهذا مااستقنته أنفس المؤمنين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )فاطر(43).
ولأهمية الأمر نجد ان بعض القصص القرآني موزع على القرآن المكي والمدني، وإن كانت مساحته في العهد المكي أوسع منها في العهد المدني.
💨- 4: زرع الأمل في نفوس المؤمنين بوعد الله بالنصر والتمكين:
يقول سبحانه:
{ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف:١٢٨].
هذه من أهم النقاط التربوية في تمكين المؤمنين من الصبر، وبها نفهم موقف الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه بعدما اشتد بهم التعذيب:
أتى خباب بن الأرت رضي الله عنه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو للمسلمين أن يرفع الله عز وجل عنهم هذه الغمة.
يقول خباب: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ خباب لم يعد يتحمل، فقد عذب تعذيباً أليماً، كان يكوى رأسه بالنار، ويوضع على الفحم الملتهب - فطبيعي أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء والاستنصار برب العالمين.
لم يكن رد الرسول صلى الله عليه وسلم على غير ما نتوقع فحسب - بل غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك في وجهه.
يقول خباب كما جاء في البخاري:
( فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه ، وقال:
« كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ »
لماذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم؟
كان غضب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف لأكثر من سبب:
- أولًا: اشتمَّ صلى الله عليه وسلم رائحة اليأس في كلام خباب رضي الله عنه! واليأس مرض مُهْلِك! وبالتالي فهو غير مقبول من المؤمنين أبدًا: قال تعالى:
{ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [الحجر: 56].
- ثانيًا: اليأس من الأمراض المعدية والتي يمكن أن تتسرب بسهولة في صف المؤمنين فتكون آثاره وخيمة، وواضح من الرواية الأولى أنَّ الأمر شاع في بعض الصحابة. وليس معنى عدم اليأس ألا يحزن الإنسان على ما يتعرَّض له من مصائب، لكن لا ينبغي لهذا الحزن أن يُدْخِلَه في اليأس، أو يوقفه عن العمل.
- ثالثًا: نحن لا نُحَدِّد بأي طريقة نعبد الله عز وجل؛ بل هو سبحانه الذي يُحَدِّد لنا كيف نعبده - وقد علَّمنا كيف نعبده في الضرَّاء بالصبر، وكيف نعبده في السرَّاء بالشكر- وهو سبحانه وتعالى لا يَعْجَل بعَجَلَة عباده، إنما يفعل ما يراه خيرًا لهم - وهو لا يُسْأل عمَّا يفعل - بينما البشر يُسْأَلون.
ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الموقف؟
1- زرع الأمل دون تحديد موعد « وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ»
2- تعظيم قدر الله عز وجل في القلوب « لايَخَافُ إِلَّا اللهَ »
3- الأخذ بالأسباب وتوقِّي التعرُّض للأذى « والذئبَ على غنمه »
4- استخدام القسم وفيه طمأنة للصحابة بحدوث البشرى« وَاللهِ »
5- استخدام التاريخ في التربية، وضرب الأمثلة المشابهة.
6- المشاركة للصحابة في الأزمة، والتعرُّض لما يتعرَّضون له من أذى.
وكانت النتيجة أن خباباً رضي الله عنه وأرضاه ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك.
💨-5: المعية مع رسول الله صلى الله عليه والمؤمنين:
المعية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المؤمنين الذاكرين , القائمين , كان لها الأثر الكبير في تقوية قلوب المؤمنين على الصبر.
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨].
☀ الحكمة الإلهية من عدم القتال في العهد المكي
قد يقول قائل:
لماذا أمر الله عز وجل المسلمين بالكف عن القتال في مكة؟ ولماذا تحملوا الألم دون رد أو تغيير؟
يقول ربنا سبحانه وتعالى: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }
[الأنعام:١٠٦].
الحكمة الكاملة من وراء ذلك المنع لا يستطيع البشر أن يتوصلوا إليها - لكننا سنبحث فيما نعتقد أنه السبب أو الحكمة، حتى نتعلم كيفية العمل في الظروف المشابهة - وقد نجمعها في خمس .
1- الحكمة الأولى من كف المسلمين عن القتال:
كف المسلمين عن القتال كان نوع جديد من الصبر و النظر الى المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة.
ماكان المسلمون ليتعلموا هذا النوع من العبادة إلا في مثل ذلك الوضع - فالصبر أنواع كثيرة، والعربي بصفة عامة صبور، يصبر على الجوع، والحر، والفقر، وطول السفر، والآلام، والحروب، إلا أنه لا يصبر على تحمل الظلم، فهذه قبائل طبيعةها ثائرة لا ترضى بالضيم والجور، يثور فيها الانسان ولو ضاعت حياته.
لكن الآن أصبحت لدى المؤمنين أبعاداً أخرى أعمق من نزعاته الفرديه مصالحه الشخصية، وأصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة ومجتمعاً، وأصبح ينظر إلى مصلحة المجموع.
ربنا سبحانه وتعالى ينظرلصالح الأمة والجماعة قبل مصلحة الفرد، ولا يمكن لأمة أن تقوم وأفرادها يقدمون مصالحهم على مصالحها - ومن ثم كان الكف عن القتال يدخل ظمن تربية المسلمون على هذا البعد الجديد من الصبر- هذا البعد الذي يرتقي بالمؤمنين من عبادة أنفسهم وأنانياتهم الى عبادة الله.
2- الحكمة الثانية من كف المسلمين عن القتال:
التربية على الطاعة للقيادة من أهم ثوابت هذه الأمة الناشئة؛ لأن الامثتال لأمر القيادة دون جدل ولا ضجر ولا اعتراض، في أمر لا تهواه نفسك في غير معصية للخالق سبحانه وتعالى هو المقياس الحقيقي للطاعة - وهذا ماحصل مع خباب - فـ خباب رأى أن استعجال النصر مصلحة في ذلك الوقت، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فأوضح له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وبين له ضرورة الصبر - حينها سمع وأطاع وكف اليد وقبل الأمر، وتعلم شيئاً في منتهى الأهمية للجماعة وهو الطاعة لولي الأمر- لا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة.
في هذا الجو من التعذيب و التنكيل أمر المؤمنون بالصبر قصبروا وتعلموا الطاعة في مشوار حياتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده.
إذاً: كانت الحكمة الثانية: تربية المسلمين على الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأي قائد ما لم يأمر بمعصية لله عز وجل.
3- الحكمة الثالثة: في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الدعوة السلمية في هذه البيئة كانت تعطي نتائج أفضل.
ولبيان هذا الأمر نطرح سؤالاً: هل الغرض في النهاية هو حكم مكة أم إسلام مكة؟ الغرض إسلام مكة، ولا يهم من الذي سيحكمها بعد ذلك، المهم يحكمها بكتاب ربنا سبحانه وتعالى وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن هذه البيئة المكية ألفت العنجهية والشرف والعلو والعزة، ولو فرضت عليها الرأي بالقوة لن تقبله، وسيحدث صراع مبكر بين المؤمنين والكافرين، وسيرفض الكافرون الدخول في هذا الدين عناداً، فهم يعاندون لضعف المسلمين، فكيف لو فرضوا عليهم الرأي بالقوة؟!
إذاً: لابد للداعية أن يدرس نفسيات من يدعوه من الناس، فمنهم من يتأثر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم من يتأثر بذكاء عقله، أو بقوة بدنه، ومنهم من يتأثر بلطفه وأدبه، وهكذا خلق الله عز وجل الناس مختلفين، ولابد للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ويراعي ظروف المدعو، وظروف البيئة التي يعيش فيها.
4- الحكمة الرابعة: في كف المؤمنين عن القتال في مكة: تجنب الفتنة الخطيرة التي ستحدث في مكة وتؤدي إلى سمعة سيئة بالإسلام، وإلى الفتنة العظيمة، ولم يكن في أرض مكة حكومة مركزية تقوم بتعذيب الناس، بل تكفل كل زعيم بأتباعه، تكفل الوالد بولده، وشيخ القبيلة بأفراد قبيلته، والسيد بعبده، فمثلاً: مصعب بن عمير عذبته أمه - وعثمان بن عفان عذبه عمه - وخباب بن الأرت عذبته سيدته وهكذا، فلو قاتل المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم، فإنهم سيقاتلون آباءهم وأعمامهم وقبائلهم، وفي هذا الموقف ما الذي سيقال عن الإسلام؟ إذا كان الكفار قد ادعوا أن الإسلام يفرق بين الولد ووالده، وبين الرجل وعشيرته، وبين المرء وزوجه من دون قتال، فكيف لو كان هناك قتال؟!
إذاً: كانت هناك حاجة ملحة لتجنب الفتنة الكبيرة في داخل مكة، وللحفاظ على الصورة الجميلة للإسلام، وهي الصورة الواقعية لهذا الدين العظيم.