اليهودية
اليهودية
مصطلحٌ يُطلق على الديانة التي تُنسب إلى العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه
السلام، والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل وهم اثنا عشر سبطاً، وقد أُرسلت إليهم
مجموعة من الأنبياء بدءاً بموسى عليه السلام مؤيداً بالتوراة. ويُعرف أتباعها
بأسماء عدة ولكل منها مدلول خاص به، ومنها
اليهود: واختلفت الأقوال في سبب التسمية وأشهر الأقوال فيها عند
المسلمين: من التهوّد، وهي التوبة لأنهم تابوا عن عبادة العجل فنقل القرآن الكريم
حكايةً عن موسى عليه السلام قوله: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}،
أما
عند اليهود: فالتسمية جاءت نسبةً إلى يهوذا أحد أبناء إسرائيل (يعقوب)، وقلبت
الذال دالاً على لغة العرب، وسبب اختياره من بين إخوته لأن من نسله ظهر داود، ومن
داود سيظهر المسيح المنتظر كما يعتقدون فهو المفضَّل عندهم.
الإسرائيليون:
نسبةً إلى بني إسرائيل (أبناء
يعقوب) مع أن معظم أتباع هذه الديانة اليوم لا يجمعهم نسب بإسرائيل،
والموسويون
أي: أتباع موسى عليه السلام.
العبرانيون
ومفردها عبري وهم: البدو الرُّحل، وقيل نسبةً إلى النبي إبراهيم وهو إبرام أو
عبرام في العبرية وهو التفسير المفضل عند اليهود لتوثيق ارتباطهم به.
أما في
الغرب فيطلق عليهم Jewish أو Juif وهي من جوشوا أو يوشوا أي يوشع بن
نون، وهو فتى موسى (مرافقه) والنبي الذي تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاته وهو ذو
شأن عظيم عندهم.
تاريخ بني إسرائيل
لعل أهم مراحل تاريخ اليهودية هي
تلك الحقبة الزمنية الممتدة لألفي عام منذ عهد إبراهيم إلى ما قبل ظهور
المسيح،
ومع أن تاريخ اليهودية كدين يبدأ مع بعثة موسى في قومه
الذين لم يسموا باليهود إلا بعد بعثته، إلا أنهم حريصون على ربط تاريخهم بأبي
الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
وأهم
مصادر تلك الحقبة الطويلة من الزمن: ما ورد في التوراة وبقية أسفار العهد القديم
على ما فيها من تناقضات وأساطير يقرُّ بها علماء اللاهوت من اليهود والنصارى فضلاً
عن علماء التاريخ والآثار، وما وجده علماء الآثار من مدونات تاريخية مكتشفة حديثاً
في مصر والعراق وبلاد الشام، وما اتضح من الحفريات، ونقله الإخباريون من مسلمين
وغيرهم مع أن معظم رواياتهم لا يمكن الوثوق بها لمناقضتها لبعض وقائع التاريخ
المسجلة وامتلائها بالأساطير والخرافات، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم والسنة
النبوية الصحيحة عن بني إسرائيل وأنبيائهم
.
وإبراهيم
عليه السلام هو الجد الأعلى للعدنانيين (أولاد إسماعيل) كما أنه الجد الأعلى لبني
إسرائيل، وله ولدان، الأول إسماعيل الذي خرجت من سلالته القبائل العربية وخاصة
قريش التي ظهر منها النبي محمد، والثاني إسحاق الذي ولد له ولدان، هما عيسو ويعقوب.
أما
يعقوب فهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل، وقد وُلد له اثنا عشر ولداً من
زوجتيه ليئة وراحيل وجاريتيهما، منهم يوسف النبي ويهوذا الذي ظهر داود من نسله،
وكل واحد من هؤلاء أعقب سبطاً من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.
عاش
يعقوب مع أبنائه في أرض فلسطين ثم فُقد يوسف بمكيدة من إخوته، وقصته ذُكرت في
القرآن الكريم والكتاب المقدس، حيث وصل به المطاف إلى مصر التي تعرض فيها لسلسلة
من المحن، فنجّاه الله منها ليتولى بحكمته وسياسته عملية إنقاذ مصر وما حولها من
القحط الشديد الذي أصابها، ما دفع إخوته إلى المجيء إليه ثم استقرارهم مع أبيهم في
مصر، وكان ذلك في عهد الهكسوس في القرن السابع عشر قبل الميلاد.
وبعد
طرد الهكسوس من مصر وتولي الفراعنة المصريين الحكم بدأت مرحلة اضطهاد شديدة لبني
إسرائيل لعلاقتهم السابقة مع الهكسوس الغرباء، وازداد العنت والظلم في عصر رمسيس
الثاني الذي ترجح بعض المصادر أنه فرعون الذي أمر بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم
واستعبادهم حتى هلك منهم الكثير.
وفي
زمانه الذي امتد بين سنتي 1304 ق.م و1237 ق.م يُعتقد أن موسى وُلد من سبط لاوي بن
يعقوب، وقبله بثلاث سنوات وُلد أخوه هارون. وقصته مع فرعون وقومه وخروجه بهم
ومواجهته لانحرافاتهم العقدية المتجددة ذُكرت أيضا في القرآن الكريم والكتاب
المقدس، وقد أدت إلى بقائهم في مرحلة التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء وحرمانهم
من دخول الأرض المقدسة (فلسطين) لأنهم رفضوا أمر نبيهم موسى بمقاتلة الكنعانيين
وفتح فلسطين.
لوحة تخيلية ليوشع بن نون وهو يأمر الشمس بالتوقف عن
الحركة حتى لا تغرب قبل أن يتم له النصر
وبعد
وفاة موسى خلفه تلميذه يوشع بن نون، وهو أول نبي بعده، وهو الذي قاد بني إسرائيل
وتمكن من فتح بعض المدن الكنعانية، وبوفاته انقطعت القيادة الاجتماعية لبني
إسرائيل وتفرقت الأسباط إلى مجموعات يقود كلا منها قاضٍ أو كاهن، وهو بمثابة
الحاكم العسكري، وبدأ بذلك ما يعرف بعصر القضاة، وهو عهد يتصف بالتوتر والضعف
والانحراف عقدياً، حيث ارتد فيه بنو إسرائيل عن عبادة الله إلى عبادة بعل وعشتاروت
وغيرها من الأوثان وشيدوا لها المعابد وقدموا القرابين وانتشرت فيهم الفاحشة
انتشاراً كبيراً، وتسلط عليهم الكنعانيون والفلسطينيون الوثنيون، وفي آخر عصر
القضاة ظهر فيهم نبي ترجح المصادر أنه صموئيل، وقد ورد ذكره مبهماً في القرآن
الكريم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن
بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ
أَلَّا تُقَاتِلُوا، قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246].
وقد
طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يختار لهم ملكاً عليهم ليوحدهم في مواجهة أعدائهم،
فأوحى الله إليه أنه سيولي عليهم طالوت (أو شاؤل كما ورد في أسفارهم)، فجمعهم
للقتال وانتصروا على الفلسطينيين الوثنيين، وذلك بعد أن قام داود -والذي كان ضمن
الجيش شاباً صغيراً- بقتل جالوت (جليات).
وبعد
موت طالوت تولى داود قيادة بني إسرائيل، وفيه اجتمعت النبوة والملك، ثم خلفه من
بعده ابنه النبي سليمان، والذي كان عصره أزهى العصور لبني إسرائيل، فنعمت مملكته
برخاء وسلام لم تعرف له مثيلاً من قبل ومن بعد. وبعد وفاته انقسمت مملكته بين ابنه
رحبعام وأحد عبيده يربعام، وانقسم معها الأسباط إلى مملكتين:
·
مملكة
إسرائيل: بقيادة يربعام في الشمال وعاصمتها السامرة (نابلس)، ومعبدها على جبل
جرزيم وكانت تضم عشرة من أسباط بني إسرائيل، واستمرت إلى أن قضى عليها الآشوريون
سنة 722 ق.م.
·
مملكة
يهوذا: بقيادة رحبعام بن سليمان في الجنوب وعاصمتها أورشليم (القدس)، وتضم سبطي
يهوذا وبنيامين، واستمرت إلى أن حطمها نبوخذ نصر ملك بابل سنة 586 ق.م.
رسم تخيلي لتدمير القدس على يد البابليين
انتشرت
المفاسد وعبادة الأوثان في المملكتين وظهر فيهم الكثير من الأنبياء، وذكر القرآن
اثنين منهم هما إلياس واليسع، بينما تعدد المصادر اليهودية والمسيحية أسماء أنبياء
آخرين مثل إشعيا وعاموس وغيرهم، وقد حاولوا تصحيح انحرافات قومهم ولقوا منهم عنتاً
واضطهاداً، حتى يقال إن الإسرائيليين قتلوا مئات الأنبياء ونشروا بعضهم بالمناشير
كما حدث للنبي إشعيا.
وقد
أدى فسادهم هذا إلى تسلط أعدائهم عليهم حتى قضي على الدولتين تماماً ودمَّر نبوخذ
نصر أورشليم وهدم أسوارها وما فيها وسبى ثلث شعبها وساقهم عبيداً إلى بابل في
العراق، كما يقال إنه قتل الثلث منهم.
وفي
المنفى بالعراق، عاش اليهود مرحلة جديدة اتسمت بالانعزال والذل، مع الشعور بأنهم
شعب الله المختار، وظهر في مرحلة السبي هذه أنبياء آخرون، ونقرأ في مصادرهم أسماء
بعضهم ومنهم عزير (عزرا) ودانيال وحزقيال.
استفاد
اليهود من تسلط الفرس على الدولة البابلية، واستغلوا نساءهم الجميلات (وأشهرهم
إستير) للتقرب من حكَّام الفرس حتى استطاعوا إقناع الملك الفارسي قورش بعودتهم من
السبي إلى فلسطين وإعادة بناء أورشليم و”هيكل الرب” كما يسمونه سنة 538 ق.م،
وتزعَّم النبيان عزرا ونحميا -حسب مصادرهم- حركة العودة من المنفى.
رسم تخيلي لهيكل سليمان (Israel Truths)
ورغم
الدعم والتعاطف الشديد الذي قدمه الفرس لليهود، إلا أن اليهود سرعان ما تحوّل
ولاؤهم للقوة الجديدة الصاعدة في المنطقة والمتمثلة في الإمبراطور اليوناني
الإسكندر المقدوني الذي تمكن سنة 330 ق.م من القضاء على الحكم الفارسي لبلاد
الشام، وخضع اليهود لحكمه وقدموا له المساعدات فعاملهم معاملةً حسنة.
بعد
وفاة الإسكندر اقتسم قوّاده إمبراطوريته الواسعة وظهر البطالسة في مصر مع تولى
بطليموس الأول حكم مصر وفلسطين، وفي عهده بدأ اليهود تمردهم الأول على اليونان
والذي كان نتيجته اقتياد أكثر من 100 ألف منهم أسرى إلى مصر، ثم عاد قسم كبير منهم
إلى فلسطين في عهد خليفته بطليموس الثاني الذي أسس مكتبة الإسكندرية الشهيرة، وقد
أبدى تعاطفاً كبيراً معهم، كما تمت في عهده ترجمة النسخ المعتمدة آنذاك من التوراة
إلى اللغة اللاتينية بواسطة 72 حبراً من أحبار اليهود وخلال 72 يوماً كما يزعمون، مع
أن الكثير من الباحثين -ومن بينهم الرهبانية اليسوعية- يشككون في هذه القصة.
ومع
انتصار السلوقيين على البطالسة وسيطرتهم على فلسطين بدأ عصر الاضطهاد والإذلال
لليهود حوالي سنة 200 ق.م، وجرت محاولات لإجبارهم على ترك دينهم واعتناق الوثنيات
اليونانية مما أدى إلى انفجار ثورة المكابيين سنة 166 ق.م على يد يهوذا ابن الكاهن
ميتاس ولُقِّب بالمكابي أي: المعيَّن من الرب يهوه.
الحصار الروماني على يد تيطوس وتدمير القدس بريشة ديفيد
روبرتس عام 1850
وبحو
نحو قرن، خضع اليهود لحكم الرومان الذين سيطروا على القدس سنة 63 ق.م، وبدأت سلسلة
من الثورات على حكمهم من قبل اليهود، انتهت بإقدام الحاكم الروماني تيطوس على
تدمير أورشليم تدميراً كاملاً سنة 70 م، ففرَّ من اليهود من بقي حياً إلى الجزيرة
العربية (تيماء وخيبر والمدينة) ومصر وليبيا وغيرها، وذهب قسم منهم إلى روما
وبيعوا عبيدا، ومن هنا بدأت قصة وجودهم في أوربا.
أما في
الشرق فاعتنقت إحدى القبائل التركية الوثنية المعروفة بالخزر دين اليهودية في
القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام، وكانت قد استوطنت المعبر الحيوي بين
بحر قزوين والبحر الأسود ومنها انحدر يهود شرق أوربا (الإشكناز) الذين يشكلون نحو
90 بالمئة من يهود العالم اليوم، وهم الذين يقوم عليهم الكيان الصهيوني في فلسطين.
ومن
الملاحظ أن السرد التاريخي لمسيرة اليهود المدوَّن في العهد القديم يتوقف قبيل
بعثة المسيح عيسى عليه السلام.
العـقائـد:
أولاً- الإله:
تعد قضية الألوهية في اليهودية من
القضايا المشكلة للباحثين، فقد كانت اليهودية في أصلها ديانة توحيدية تدعو إلى
عبادة إله واحد لا شبيه له، لا تدركه الأبصار وتعتمد عليه المخلوقات كافة ولا
يعتمد على أيٍّ منها بل يسمو عليها. وكثرة الأنبياء فيهم كان هدفها تنقية عقيدتهم
باستمرار مما أصابها من شوائب الوثنية المتكررة والتي أدت- إضافةً إلى عوامل أخرى-
إلى تطور مفهوم الألوهية عندهم إلى الحلول والمشابهة، فالإله في اليهودية وكما
تصفه أسفار العهد القديم كائن يتصف بصفات البشر فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح
ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء متقلب الأطوار، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب
الآباء، بل ويحس بالندم ووخز الضمير، وهو ليس عالماً بكل شيء لذلك نجده مثلاً يطلب
من أبناء إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع
أعدائهم المصريين عن طريق الخطأ.
وباستعراض
نماذج مما ذكرته التوراة والتلمود من صفات الرب يمكن استنتاج الملامح التالية
لعقيدتهم فيه:
1- يعتقد
اليهود أن آدم هو ابن الله لأن الله خلقه من روحه فبثّ فيه جزءاً من ذاته، فهم
عندما يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه لا يقصدون البنوة المعنوية كما يتبادر للذهن
للوهلة الأولى لكنهم يقصدون أن أرواحهم جزء من ذات الله لأنهم وحدهم يمثلون نسل
آدم وحواء في نقائه وهم أبناؤه حساً ومعنىً على الحقيقة، فآدم وحواء -عندهم- زنى
كلٌّ منهما مع عشاق لهما من الجن وأنجبا ذرية ينحدر منها باقي البشر أما اليهود
فهم من أبناء آدم وحواء وحدهم.
2- الرب
عندهم هو رب الأرباب الأخرى التي يدخل في صراع معها ويدمرها، وهو لا يهتم بأن تعبد
الشعوب الأخرى غيره لكنه يهتم اهتماماً شديداً بأن يعبده أبناؤه وشعبه إسرائيل
ويغار غيرة شديدة عندما يتجهون لغيره لأنه اصطفاهم وجعلهم أحباءه وأبناءه، لذلك
نجده يحجب الهداية عن فرعون ويقسِّي قلبه مع أنه قال لموسى وهارون “صلّيا لأجلي”،
أي أنه أراد الهداية ولكن الرب لا يهمه ذلك. وقد استخدم كاتب التوراة أسلوباً
بذيئاً حين صوّر الرب وكأنه قد تزوج إسرائيل التي ذهبت تزني مع أوثان وهو يغار
عليها ويرجوها أن ترجع إليه كعهدها السابق، فيقول: “حاكموا أمكم -أي إسرائيل-
لأنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها، لكي تعزل زناها عن وجهها.. ولا أرحم أولادها
لأنهم أولاد زنى، لأن أمهم زنت، التي حبلت بهم صنعت خزياً لأنها قالت: أذهبُ وراء
محبيَّ الذي يعطون خبزي ومائي وصوفي.. لكن هأنذا أتملقها وأذهب إلى البرية
وألاطفها وأعطيها كروماً هناك وهي تغني هناك كأيام صباها.. يكون في ذلك اليوم يقول
الرب: إنك تدعينني رجلي ولا تدعينني بعلي” [سفر يوشع 2/ 2- 21]، فالرب -حسب زعمهم-
ينفر من كلمة بعل لأن إسرائيل عبدت بعل فأصبح يكره هذه الكلمة، وقد اضطررنا
للاجتزاء من النص السابق لأنه يتضمن أوصافا غير لائقة.
3- الله
حسب زعمهم لا يريد للإنسان أن يكتسب المعرفة بل أن يبقى جاهلاً حتى لا ينافسه لذلك
منعه من أكل الشجرة، بل كان أيضا جاهلاً ولم يعرف أن آدم أكل منها إلا عندما أخبره
هو بذلك، ثم طرده من الجنة ومنعه من دخولها خوفاً من يأكل من شجرة الخلد فيشاركه
الخلود.
4- الرب
في التوراة متجسد على هيئة البشر ويمكن رؤيته في الدنيا وقد رآه كل الأنبياء،
ومنهم إبراهيم الذي زاره الإله على هيئة رجل مع اثنين من الملائكة وجلسوا
ليستريحوا تحت شجرة وغسلوا أرجلهم وأكلوا وشربوا. كما ظهر لبني إسرائيل على شكل
عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل ومشى أمام شعبه ليهديهم الطريق، ويتكرر
نزوله إلى الأرض مرات ومرات ويمكن أن يتكلم مع غير المؤمنين أيضاً ليهددهم إن
أرادوا إيذاء شعبه المفضل.
5- تنسب
التوراة له الندم والبكاء واللطم على وجهه، وقد ظهر ذلك منه بعد أن شرد أبناءه اليهود
وخرب بيت المقدس، فخصص ساعات من النهار ليبكي على تشريدهم وصرخ قائلاً “تباً لي
لأني صرّحت بخراب بيتي وإحراق هيكلي ونهب أولادي”، وعندما سمع أبناءه يمجدونه
بالرغم مما فعله بهم بكي ولطم وجهه وقال “طوبى لمن يمجده الناس.. وويلٌ للأب الذي
يمجده أبناؤه مع عدم استحقاقه لذلك لأنه قضى عليهم بالتشريد”.
تابوت العهد كما جاء وصفه في الأسفار والذي يعتقدون أنه
يحتوي على الألواح التي أنزلت على موسى وهو مفقود اليوم
6- يعتقدون
أنه أمر موسى وهارون ببناء خيمة الاجتماع ليسكن فيها ثم جعل التابوت مقراً له
ليكون على مقربة من أبنائه يرعاهم ويدبر أمورهم، ويسمونه “رب الجنود الجالس في
التابوت”، وبما أن التابوت وقع في أيدي أعدائهم مراراً فقد سُجن الرب فيه، فقرر أن
يسكن في جبل صهيون في أورشليم، وأخيراً بنى له سليمان الهيكل العظيم ليستقر فيه
ويرتاح من التجوال، لكن الهيكل نفسه هُدم فانتقل الرب إلى السماء، ومن هنا يتبين
حرص اليهود على بناء الهيكل ليعود الرب إليه بزعمهم فهم لا يستطيعون التخلي عن
نزعتهم المادية المحسوسة التي تصوروا الإله من خلالها والتي لازمتهم طوال تاريخهم
رغم الجهود المضنية التي بذلها الأنبياء لتخليصهم منها.
7- الرب
عندهم يحب القرابين واللحم المشوي، وبمجرد أن يتنسم رائحته تنبسط أساريره ويفعل
لهم ما يشاؤون من تعذيب الأمم الأخرى وقتلها وحرقها ولا يهم بعد ذلك إن عبدوا
الأوثان أو سرقوا الأموال، كما لا يهمه ما إذا كانت اللحم المشوي نفسه من أغنام
مسروقة أم لا، فقد زعموا أن يعقوب سرق أغنام خاله وقدّم اللحم المشوي للرب فرضي
وقبله بعد أن تنسم رائحته وأعطى يعقوب العهد له ولأولاده، ويقال إن هذه الفكرة
تطورت حتى أصبحت طقساً راسخاً يقتلون لأجله في كل سنة طفلاً غير يهودي ويستخدمون
دمه لصناعة الفطير المقدس الذي يعتقدون أن الرب يحبه كثيراً ويأكل منه كبار
الأحبار والكهنة، بينما يردّ اليهود بالنفي ويعتبرون أن “فرية الدم” افتراء أُلصق
بهم بلا دليل.
وعلى
أي حال، يظهر التاريخ غلبة الطبيعة المادية على الكثير من بني إسرائيل، فحتى مع
وجود موسى بينهم وما جاءهم به من الآيات كانوا يطلبون منه أن يجعل لهم رباً مادياً
كغيرهم من الوثنيين، ثم امتد أثر هذه العقيدة ليخالط تصورهم للإله، ويقول عباس
محمود العقاد: “إن الوحدانية التي يدركها اليهود لم تكن وحدانية تفكير لكنها
وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب.. لليهود إله يعلو على آلهة غيرهم
من البشر” [إبراهيم أبو الأنبياء، ص 112].
وللإله
في اليهودية أسماء متعددة وهي:
ولقداسة
الاسم كان اليهود لا يتفوهون به بل يستخدمون كلمة “أدوناي” العبرية بمعنى سيدي أو
مولاي للإشارة إلى الإله. وبما أنه مكون من أربعة أحرف فقد استعاضوا عن التلفظ به
بكلمة “تتراجراماتون” أي الرباعي، ولا ينطق اسم يهوه إلا الكاهن الأعظم فقط داخل
قدس الأقداس بهيكل سليمان في يوم الغفران. [المجتمع اليهودي، ص 293]
وقد
نسب العهد القديم إلى يهوه صوراً عديدة للقسوة، فكان يأمر شعبه بالغدر والقتل كما
أنه محدود المعرفة وتنسب إليه صفات النقص في البشر.
2- إلوهيم: اسم من أصل كنعاني وهو بصيغة الجمع لكلمة “إيلوَّه” أي إله، وعدّها
بعض الباحثين دليلاً على إيمان اليهود في مرحلة من مراحلهم بتعدد الآلهة، إلا أن
المدقق في أوصاف إلوهيم عندما يأتي الاسم في العهد القديم يلاحظ أن صفات إلوهيم
تختلف عن صفات يهوه، فإلوهيم إله رحيم خلق السماوات والأرض ولا يشبه مخلوقاته، لذا
رجح البعض أن الاسم يدل على الإله مع إضافة لاحقة الجمع (يم) العبرية التي تدل على
التفخيم، وظهور هذا الاسم فيهم يشير إلى مرحلة شهدت تنقية عقائدهم من كثير من
الشوائب، وهو الاسم الذي شاع استخدامه علماً على الإله في مملكة إسرائيل الشمالية.
3- إيل: لا يعرف أصل هذا الاسم أيضاً، فقيل هي
كلمة أكادية وتعني الإله على وجه العموم، وكثيراً ما تستخدم مع لقب من ألقاب الإله
مثل “إيل عليون” أي الإله العلي، كما تستعمل كجزء من أسماء عديدة مثل “إيلعازر” أي
الإله قد أعان، وهو أسلوب مستخدم حتى يومنا هذا.
وتُذكر
للإله في العهد القديم أسماء أخرى كثيرة، منها رب الجنود، ومقدِّس يسرائيل، وإله
إسرائيل الذي يتكرر مئات المرات ويترتب عليه أن أبناء إسرائيل وحدهم هم البشر ولهم
إله خاص بهم أما باقي الخلائق فليسوا كذلك.
ثانياً- الأنبياء:
من يقرأ الكتب المقدسة عند اليهود
يجد أنهم يثبتون بعثة عدد كبير من الأنبياء المتفق على نبوتهم في الإسلام كنوح
وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن جاء من بنيه من رسل، ومنهم موسى وهارون ويوشع
بن نون وداود وسليمان وإلياس واليسع وغيرهم.
ويلاحظ
الباحث اختلاف مصطلح النبوة عند اليهود عما هو عليه لدى المسلمين، فهو لا يقتصر
عند اليهود على من اصطفاهم الله لهذه المهمة العظيمة بل يتسع ليشمل أصنافا متعددة،
ومن قراءة أسفار التوراة والكتب الملحقة بها يمكن رسم ملامح مفهوم النبوة كما
يفهمه اليهود ويدينون به من خلال النقاط التالية:
1- جاء
التصريح في العهد القديم بنبوة بعض النساء مثل مريم أخت موسى وهارون (وهي ليست
مريم أم عيسى)، ودبورة التي جمعت بين القضاء والنبوة، وخلدة التي جمعت بين الكهانة
والنبوة أيضاً، كما أنها ممكنة للكبار والصغار والعبيد والإماء.
سفر إشعيا
2- النبوة
ممتدة في بني يعقوب (إسرائيل) إلى الآن، ففي التوراة نقرأ “قال الرب (لأشعيا):
روحي الذي عليك وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك ولا من نسلك قال الرب من
الآن وإلى الأبد”. [أشعيا 59/21].
3- قد
يجتمع فيهم مئة نبي في مكان واحد مما يدلُّ على كثرتهم فيهم.
4- دلت
الأسفار على أن النبوة تُكتسب اكتساباً وليس اصطفاءً من الله، فزعموا بذلك أن بعض
الأنبياء سلكوا طرقاً ملتوية للحصول عليها، كما فعل يعقوب حين خدع أباه إسحاق
وانتزع حق خلافته في النبوة من أخيه البكر عيسو بخطة دبرها مع أمه، وعندما علم
إسحاق بذلك سُقط في يده ولم يستطع تغيير الأمر الواقع، بل حتى الرب نفسه بزعمهم
رضي بالخديعة وقبل نبوة يعقوب الذي سيصبح أباً لشعبه المفضل.
5- قد
يرسل الرب أنبياء لإرشاد الأنبياء أنفسهم، “وكان إلى كلام الرب قائلاً يا ابن آدم
تنبأ على أنبياء إسرائيل” [حزقيال: 13/2-3]، ما يعني أن الأنبياء قد ضلوا فتطلب
الأمر إرسال أنبياء آخرين ليردوهم إلى جادة الصواب، وهذه الفكرة تؤدي بالضرورة إلى
رفع العصمة عن الأنبياء، ومن ثم فلا يلزم الناس اتباع أي منهم لاحتمال كذبهم
وضلالهم في أي شيء.
6- الباحث
في العهد القديم يجد أن الأنبياء المذكورين في أسفاره لا يختلفون عن بقية البشر في
شيء، فيجوز عليهم الكذب والغش والخداع والمعاصي كبيرها وصغيرها في حال نبوتهم، كما
يجوز عليهم الإشراك بالله ودعوة الناس إلى الشرك أيضاً، كما تذكر الأسفار أنبياء
للأوثان كأنبياء بعل وعشتاروت مما يصعب على الباحث مهمة التمييز بين النبي الصادق
والكاذب في نظر التوراة، وقد ذهب الحَبر اليهودي موسى بن ميمون إلى أن النبي هو كل
مُخبَر بغيب من جهة التكهن والشعور أو من جهة الرؤيا الصادقة ولعل هذا هو سبب
تسمية أنبياء البعل وعشتاروت بذلك.
7- ذهب
الحبر سعديا الفيومي إلى تعريف النبوة بأنها اصطفاء من الله، وتعريف الرسول بأنه
مؤيد بالمعجزات، فيقول: “فأي رسول اختاره الله الخالق لرسالته جعل سبيله أن يعطيه
علامة من هذه الأعلام: إما قهر طبائع كمنع النار أن تحرق أو حبس الماء أن يجري أو
قلب عين كما يقلب الحيوان جماداً والجماد حيواناً… فإذا دفع إليه علامة من هذه وجب
على من رآها من الناس أن يفضلوه ويصدقوه فيما يقول”، وهذا التعريف يخالف ما نجده
في التوراة من إثبات نبوة كثير من أنبيائهم.
وعد بلفور
8- استفادت
الصهيونية من سعة مصطلح النبوة في العهد القديم وجعلته أكثر سعةً وامتداداً حتى
جعلتها في متناول كل من يقوم بدورٍ مهم لخدمة الشعب اليهودي في كل زمان، حتى أصبح
كل يهودي مخلص في مصافِّ الأنبياء، فقالوا عن ديفيد بن غوريون إنه النبي المسلح
وعن جابوتنسكي نبي محارب، بل يزعم البعض أن رئيس وزراء بريطانيا آرثر بلفور (صاحب
وعد بلفور) هو الآخر نبي.
ومضامين
الوحي تشمل أوامر الله ونواهيه وتعاليمه لبني إسرائيل، كما تشتمل في رأيهم أيضاً
على أمور لا تتناسب مع تنزيه الإله وكرامة أنبيائه، ومنها:
1- الرب يأمر أنبياءه بالفواحش، فيقول “اذهب خذ لنفسك
امرأة زنى وأولاد زنى” [يوشع: 1/2]، كما يطلب من نبيه أشعيا أن يتعرى تماماً ويدعو
بني إسرائيل لثلاث سنوات ويمدحه على ذلك [أشعيا: 20/2]، وفي المقابل يقول القرآن
الكريم {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28].
2- يطلب
الرب من أنبيائه أن يقضوا له حاجاته، فيطلب من داود مثلا أن يبني بيتاً له لأنه
كان يسكن في خيمة: “في تلك الليلة كان كلام الله إلى ناثان قائلاً اذهب وقل لداود
عبدي هكذا قال الرب أنت لا تبني لي بيتاً للسكنى لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت
إسرائيل إلى هذا اليوم بل سرت من خيمة إلى خيمة ومن مسكن إلى مسكن” [صموئيل
الثاني: 7/ 6].
3- تتضمن
التوراة التي يعتقدون أنها من الوحي سرداً تاريخياً لحياة بني إسرائيل، فأغلب
الأسفار هي حكاية تاريخية وبيانٌ لحروبهم وصراعاتهم وتنقلاتهم وأسماء أماكنهم
ورجالهم.
4- تحتوي
الأسفار على صفات قبيحة للأنبياء يتنزه عنها الرجل العادي فضلاً عن الصالح، فتزعم
أن سليمان مال إلى عبادة الأصنام بسبب حبه لنسائه الوثنيات وأنه ختم عمره بعبادتها
وبالسحر، وتتهم هارون بأنه هو الذي صنع العجل الذهبي وأمر بني إسرائيل بعبادته في
غياب موسى، وتورد قصصا عن محاججة الأنبياء للرب واعتراضهم على أحكامه كما فعل
إبراهيم وموسى وإلياهو (إلياس)، أما يعقوب فقالوا إنه علم بزنى ابنه راؤبين بزوجته
ومع ذلك سكت عن فعله، ونسبوا إلى لوط الزنا بابنتيه بعد سكره معهما، أما داود فقد
شاهد -حسب زعمهم- امرأة عارية تستحم فأعجب بها وزنا بها وتخلص من زوجها (أحد قادة
جيشه) بإرساله في معركة وجعله في مقدم الجيش ليضمن قتله، ثم ضم هذه الزوجة إلى
نسائه فكانت نتيجة هذا الفعل ولادة ابنه سليمان.
ثالثاُ- الكتب المقدسة:
ويضم حسب رأي اليهود الأسفار التي جاء بها موسى وأنبياء
بني إسرائيل من بعده، ويطلق اسم التوراة على الأسفار الخمسة الأولى من العهد
القديم، كما يطلق على الكتاب بكامله لأن أسفارها هي الأقدس عندهم ومن باب إطلاق
اسم الجزء على الكل، والأسفار جمع سِفر وهو الكتاب، أما الأسفار الخمسة فهي:
1- سفر
التكوين: يبدأ من خلق الكون مروراً بقصة آدم وتعرضه للإغواء وخروجه من الجنة، وقصة
نوح والطوفان وما كان من أمر أبنائه بعد الطوفان سام وحام ويافث، ثم قصة إبراهيم
وسلالته والعهد الذي قطعه الرب معه، ويذكر بالتفصيل قصة أبناء يعقوب الإثني عشر
وقصة يوسف وينتهي بوفاة يوسف.
2- سفر
الخروج: يتضمن قصة موسى منذ ولادته أثناء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل، ونشأته في
قصر فرعون وتحركاته وخروجه إلى مدين وصحراء سيناء وكلام الله له فيها ونبوته، وترد
في هذا السفر الوصايا العشر وقانون العهد وهي مجموعة من الشرائع والقوانين، كما
ترد في السفر قصة ارتداد بني إسرائيل وعبادتهم العجل وتفاصيل رحلتهم شرقاً.
3- سفر
اللاويين (أو الأحبار عند المسيحيين): لاوي هو أحد أبناء يعقوب، ومن نسله تحدر
السبط الذي ولد فيه موسى وهارون، وفي نسله تنحصر الكهانة حسب ما جاء في السفر، إلا
أن أحبار اليهود تعاونوا فيما بعد على إلغاء هذه القاعدة. وفي هذا السفر يتوقف
السرد التاريخي ويبدأ التركيز على التعاليم الخاصة بالحياة الدينية حتى سماه علماء
الشريعة الإسرائيلية “القانون الكهنوتي”.
4- سفر
العدد: سمي بذلك لبروز ظاهرة التعداد الدقيق فيه، حيث ترد فيه إحصاءات تفصيلية
لتعداد بني إسرائيل الراحلين مع موسى في التيه وعدد المدن والذبائح، ويُذكر فيه أن
مدة التيه أربعين سنة، ويعود فيه السرد التاريخي لقصة موسى وقومه ويكثر فيه تذمرهم
منه والاحتجاج عليه وعلى ربه حتى يصل إلى التآمر عليه من إخوته هارون ومريم أنفسهم.
5-سفر
التثنية: هو آخر الأسفار الخمسة، ومعناه تثنية الشريعة أي إعادتها وتكرارها على
بني إسرائيل مرة ثانية عند خروجهم من صحراء سيناء ووصولهم إلى سهول النقب وجنوب
الأردن، وتضمن نسخاً لبعض تعاليم الشريعة الأولى أو إضافة أشياء لم ترد من قبل،
ويتحدث عن وفاة هارون واستخلاف يوشع بن نون تلميذ موسى وخادمه، ثم وفاة موسى في
جبل مؤاب وعدم معرفة قبره إلى الآن. فيقول في الفقرتين 5 و6 “فمات هناك موسى.. وتم
دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور ولم يعرف أحدٌ قبره إلى يومنا هذا”.
أما
القسم الثاني من العهد القديم فهو كتاب “الأنبياء”، ويضم بدوره قسم الأنبياء الأول
وقسم الأنبياء الآخر، ويتضمن الأول أربعة أسفار يتتابع فيها السرد التاريخي لمسيرة
الاسرائليين وهي: يوشع بن نون، والقضاة، وصموئيل، والملوك. ويتضمن الثاني أسفار
خمسة عشر نبياً عندهم تولوا قيادتهم الروحية في ظروف سياسية واجتماعية حالكة،
ومنهم عاموس وإشعيا وإرميا وحزقيال.
والقسم
الثالث من العهد القديم هو “الكتب” أو “أسفار الحكمة”، وهي أسفار يغلب عليها
الطابع الأدبي شعراً ونثراً وتتضمن قصصاً وحكماً تواترت لديهم وتحتوي تمجيداً
لبطولاتهم في الاستقرار في فلسطين أو الرجوع إليها بعد السبي البابلي، وعددها اثنا
عشر سفراً وأهمها: مزامير داود (وهو الزبور)، وأمثال سليمان، وأيوب، ونشيد
الأناشيد، ودانيال، وإستير، وعزرا.
كان
علماء اليهود واللاهوت المسيحي يعتقدون أن موسى هو الذي كتب الأسفار الخمسة، وأن
الذي نزل من السماء مكتوباً هو لوحان فقط، وأن موسى كسرهما عندما رأى بني إسرائيل
يعبدون العجل. كما اعتقدوا أن بقية أنبياء بني إسرائيل كتبوا الأسفار المنسوبة
إليهم، وأن معظمها كُتب باللغة العبرية وبعضها بالآرامية، ثم تُرجمت في عهد
بطليموس الثاني (246ق.م) إلى اليونانية، وذلك على يد 72 حبراً من أحبار الإسكندرية
في القرن الثالث قبل الميلاد، فسميت بالترجمة السبعينية، وهي الترجمة المعتمدة لدى
معظم الطوائف اليهودية والمسيحية.
الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ إسبينوزا كان
من أوائل الباحثين الأوروبيين الذين اجترأوا على نقد العهد القديم وكشف تناقضاته
في القرن السابع عشر
لكن
هذه الاعتقادات بدأت بالتلاشي في القرن الثامن عشر، حيث أكدت أبحاث كثيرة أن
الأسفار الخمسة كتبها مئات الأحبار على مدى القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد،
أي بعد وفاة موسى بقرابة ألف عام، وأنها جُمعت بشكلها الحالي بعد ذلك بكثير، كما
وجدوا أنها عبارة عن كتب تجمع أساطير وأشعار وتراث شعوب وحضارات الشرق الأدنى
المتنوعة، وأن قيمتها تقتصر على الجانب الأدبي فقط
كما
أثبتت الدراسات أن الأسفار المنسوبة للأنبياء لم يكتبها الأنبياء بل اشترك في
كتابتها عدد كبير من المؤلفين والأحبار الذين لم تُعرف أسماؤهم، وكذلك بقية أسفار
العهد القديم.
وبالنتيجة
اضطر الكثير من علماء اللاهوت والأحبار لتغيير موقفهم، فقالوا إن الأسفار لم
يكتبها موسى والأنبياء إلا أن روح الرب كانت تظلل الكتَّاب المجهولين على مدى ألف
عام، وبهذا فقد أسقطوا المعنى الحقيقي للوحي، كما رأوا أن وجود الأخطاء التاريخية
في الأسفار لا ينفي عنها صفة الإلهام لأن الوحي من الله لا يمنع الوقوع في أخطاء
وتناقضات -حسب تصورهم- ورتبوا على ذلك ضرورة فهمها بالمعنى الإجمالي، وتأويل ما
يناقض العلم والتاريخ وإن كان تأويلاً متعسفاً
وأرجع
الباحثون في العهد القديم أسفار موسى الخمسة إلى أربعة مصادر رئيسية هي:
1- المصدر أو النص اليهَوي: حيث
يُذكر الله باسم (يهوه) الذي كان شائعا في مملكة الجنوب يهوذا في القرن التاسع قبل
الميلاد، ويتحدث هذا النص عن بدء الخليقة وينتهي بموت يعقوب، ويتميز بأنه تصويري
وساذج ومليء بالأساطير، حتى أنه يجسد يهوه بصورة بشرية.
2- المصدر الإلوهيمي: حيث يذكر اسم الله باسم (إلوهيم) الذي كان شائعا في مملكة
الشمال إسرائيل وعاصمتها السامرة، وزمان كتابته متقدم على النص اليهوي في القرن
الثامن قبل الميلاد. وموضوعه الأحداث الخاصة بإبراهيم وذريته، وأسلوبه أكثر
اعتدالاً لا سيما في تصويره للرب الذي يتحدث عنه بتنزيه أكبر، وأنه رب العالمين
وليس خاصاً بإسرائيل وحدها. ويمتاز هذان المصدران بكثرة الروايات والقصص وندرة
التشريعات، وقد أدمجا في مجموعة واحدة في القرن السابع قبل الميلاد.
3- مصدر سفر التثنية (تثنية الاشتراع): وهو سفر تتكرر فيه
الشرائع والقوانين، وقد أعلن العثور عليه في زمن الملك يوشياهو ملك يهوذا سنة 620
ق.م، وأسلوبه مختلف عما سبق ويتميز بالإنشاء الخطابي.
4- النص الكهنوتي: وهو يتألف من فصول كتبها الكهنة في عصر النفي إلى بابل وما بعد
النفي، أي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد في زمن عزرا (عزير في القرآن
الكريم)، ويتميز هذا النص بالتكرار والتشدد والميل إلى كل ما يتعلق بالذبائح
والطقوس والكهانة.
وبعد
كتابة الأنواع الأربعة السابقة، جمعها الأحبار في كتاب واحد أسموه “التوراة” أو
أسفار موسى الخمسة، وذلك في عصور متأخرة جداً تصل إلى ما بعد ظهور المسيح عيسى. وهذا
يفسر التناقض الكبير بين الأسفار نفسها.
ويقول
الباحث اليهودي إدمون جاكوب في كتابه “العهد القديم” إنه لا يوجد نص واحد للعهد
القديم بل نصوص كثيرة، ففي القرن الثالث قبل الميلاد كان هناك -على الأقل- ثلاث
مدونات للنص العبري للأسفار الخمسة وهي: النص الماسوري أي المحقق الذي تم اعتماده
بعد عصر موسى بحوالي 2300 سنة، والنص السامري الذي تؤمن به طائفة يهود السامرة،
والترجمة السبعينية إلى اليونانية [موريس بوكاي، ص39]
وثمة
شكوك أيضا حول الترجمة السبعينية، حيث ترى المسكونية الفرنسية أنها تمت خلال فترة
زمنية طويلة بواسطة كتَّاب لم يلتزموا بدقة الترجمة، بل كان لهم حق الإضافة
والحذف. كما صرحت دائرة المعارف البريطانية (الطبعة 15: 2/879) بأن النص اليوناني
يختلف عن النص العبري اختلافاً بيناً، وفيه زيادات كثيرة في مختلف الأسفار.
ويقول
جاكوب إن ما يرويه العهد القديم عن موسى والأنبياء لا يتفق إلا بشكل تقريبي مع
المجرى التاريخي للأحداث، لكن الرواة كانوا يعرفون كيف يضفون الأناقة والخيال على
مروياتهم بحيث يربطون بين أحداث شديدة التنوع، وقد نجحوا في تقديم هذه الأحداث في
شكل حكاية لما حدث في أصل العالم والإنسان، أي أن كتَبة التوراة أضافوا بخيالهم
إلى النص أشياء كثيرة لم تحدث.
وهذا
يؤكد ما جاء في القرآن الكريم عن تحريف اليهود للتوراة الأصلية تحريفاً كبيراً،
حيث يتفق علماء الإسلام على وقوع هذا التحريف بيد أنهم يختلفون في معناه على
قولين، هما:
القول الأول: التحريف
والتبديل وقع في التأويل والنص ولكن في أجزاء محدودة من التوراة، مثل زعم الأحبار
أن الله صارع يعقوب طوال الليل ولم يستطع أن يتغلب عليه، وأنه سبحانه تعب بعد خلق
السماوات والأرض فاستراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، وأن النبي لوط زنى
بابنتيه بعد أن شرب الخمر، وغيرها مما رأى النقاد الأوروبيون أنفسهم -في عصر
النهضة وبعده- أنه لا يمكن أن يكون من الوحي الإلهي.
القول الثاني: التوراة
التي أنزلت على موسى بُدِّلت كلها أو أكثرها، ولا يوجد تطابق بين توراة موسى
والتوراة الموجودة اليوم في شيء، والشذرات الصحيحة المنبثَّة في الأسفار الحالية
نادرة جداً. وهذا القول هو الأرجح الذي ذهب إليه المتبحرون في دراسة الأسفار
ومقارنة الأديان، مثل ابن حزم الأندلسي، وأبي حامد الغزالي، وإمام الحرمين
الجويني، وابن تيمية، وابن القيم، والقرطبي صاحب التفسير، ورحمة الله الهندي
وغيرهم.
أما
أنواع تحريف التوراة التي نبَّه إليها القرآن فهي: تحريف بالتبديل ويكون بوضع كلمة
مكان كلمة أو جملة مكان جملة، وتحريف بالزيادة والنقصان ويكون بزيادة أو حذف كلمة
أو جملة، وتحريف بتغيير المعنى دون تغيير اللفظ. وهناك قسمٌ من أصل التوراة نسيه
اليهود وفُقد منهم بسبب بذنوبهم، كما بيّن ذلك القرآن بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}
[المائدة: 13].
ويرى
باحثون مسلمون معاصرون أن أحبار اليهود كتموا ما بقي لديهم من التوراة وأخرجوا
للناس نقيضها لإفسادهم وحجبهم عن معرفة الحق، لأن انتشار الإلحاد والفساد بأنواعه
يضمن لهم السيطرة على العالم، ويرجح الباحث بهاء الأمير في كتابه “الوحي ونقيضه”
أن العائلات اليهودية الكبرى التي تسيطر على إمبراطوريات المال والإعلام في العالم
تحتفظ بالتوراة وتبث نقيضها عبر أذرعها في الجمعيات السرية المسيطرة على مفاصل
القوة في الدول العظمى. ويقول إن أحد أبرز مظاهر إفسادهم هو تحريفهم لقصة
خلق الإنسان في التوراة، وما ترتب على هذا التحريف من فساد عقدي وتمكينٍ
لسطوة الشيطان على الإنسان الذي يضمن سيطرتهم ونفوذهم.
تناقضات وتساؤلات في أسفار العهد القديم
يذكر سفر التكوين قصتين للخلق،
ففي الأولى [1: 20- 27] خلق الله النباتات والحيوانات أولاً ثم خلق الإنسان، وفي
الثانية [2: 7، 19] خلق الإنسان أولاً ثم خلق النباتات والحيوانات.
المدة الفاصلة بين خلق آدم وطوفان نوح تبلغ في النسخة العبرية 1656
سنة، وفي النسخة اليونانية 2262 سنة، أما في النسخة السامرية فتبلغ 1307 سنة.
في سفر الخروج [6: 2] يخبر الله نبيه إبراهيم بأن اسمه ليس “يهوه”،
إلا أنه يؤكد له في سفر التكوين [22: 14] أن اسمه “يهوه”.
يقول سفر العدد إن النبي هارون توفي في جبل هور [20: 28]، بينما يقول
سفر التثنية إنه توفي في موسير (موسره) [10: 6].
في سفر صمويل الأول [18: 19]: ابنة شاؤول اسمها ميراب، أما في سفر
صموئيل الثاني [21: 8] فاسمها ميكال، ويقول السفر إن داود أخذ بني ميكال الخمسة
وأسلمهم للصلب مع إثنين آخرين حتى يرضى الرب ويمنع استمرار المجاعة، لكن نسخا
أوروبية حديثة للسفر عدّلت النص وجعلتهم أولاد ميراب.
يقول سفر التثنية “فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مواب… ولم يعرف
إنسان قبره إلى هذا اليوم” [34: 5- 6]، فلو كان موسى هو كاتب العهد القديم فكيف
يكتب عن وفاته واختفاء قبره؟
جاء
في سفر حزقيال [18: 20] أن الأبناء لا يحملون ذنوب الآباء، وفي سفر التثنية [24/
16]: “لا تقتل الآباء بالبنين ولا تقتل البنون بالآباء، بل كل امرئ بذنبه يُقتل”،
بينما ينص سفر الخروج [20: 5] على أن الرب ينتقم من الأبناء حتى الجيل الثالث
والرابع بسبب ذنوب الآباء.
الكتاب الثاني- التلمود: يأتي
في المقام الثاني بعد التوراة، وهو الشريعة الشفوية، ويتألف من قسمين هما المشناة
والجمارا.
أحبار يتدارسون التلمود بريشة كارل تشيلشر
أما
المِشناة فهي مجموعة من الشرائع اليهودية المروية على الألسنة، حيث يعدها اليهود
مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع، ويظنون أنها تعود إلى موسى نفسه، فيسمونها
“التوراة الشفوية”. ولم يبدؤوا بتدوينها إلا بعد السبي البابلي في القرن الخامس
قبل الميلاد واستقرت كتابتها على الوضع الذي نعرفه في نهاية القرن الثاني بعد
الميلاد.
تقسم
المشناة إلى ستة أقسام تتضمن التعاليم الدينية الخاصة بكل من: الأرض والزراعة،
الأيام والأعياد المقدسة، النساء وأحكامهن، القصاص والعقوبات، القرابين وخدمة
الهيكل، أحكام الطهارة والحلال والحرام. وقد كتبت بلغة عبرية حديثة قياساً إلى
عبرية التوراة.
وبعد
الانتهاء من تدوينها انكب أحبار اليهود على شرح المشناة، وأودعوا في شرحهم كل ما
أرادوا إشاعته بين عوام اليهود من شرائع وحكايات في كل مجال، فسمي هذا الشرح
“جمارا” أي التكملة، وكتب بالآرامية، ومن اجتماع المِشناة والجمارا تكون “التلمود”.
تركزت
مدارس الشرح في العراق خلال السبي البابلي كما ظهر لها شرّاح في فلسطين من فلول
اليهود التي بقيت هناك بعد السبي، وأدى ذلك إلى ظهور تلمودين: تلمود بابلي شرح
المشنة كاملةً، وتلمود أورشليمي ناقص شرح فصولاً منها، وعندما يُطلق التلمود يقصد
به التلمود البابلي.
رابعاً- عقيدة يوم الرب وعقيدة الماشيَّح المنتظر:
يعتقد اليهود أن الرب اختار
إسرائيل شعباً له ووعدهم بإخضاع شعوب الأرض لهم. ومع أن ذلك لم يحدث دائماً، ومع
أنهم يقرّون بإصرارهم على التفريط في عهدهم معه وأن الدنيا تبدو بعيدة عن الكمال
المطلوب وفق تصورهم لها، فإن ذلك يقتضي أن يُنزل الرب عقابه الصارم وينتقم لشعبه
المختار ويكون له مع الدنيا يومٌ عظيم.
وقد
ذُكر “يوم الرب” على لسان النبي عاموس في السفر المنسوب له محذراً من الانتقام
الإلهي من المخالفين، وخلط اليهود بدهاء قضيتهم بقضية الإله، فهم ينتظرون يوم الرب
ليحمل لهم انتصار شعب الرب المختار على الأمم الأخرى التي ستدين لهم بالخضوع فيه،
أما كلمات عاموس نفسه فتشير إلى أنه يومٌ تنتصر فيه العدالة الإلهية التي سيرتعد
منها الشعب اليهودي رعباً مما اقترفه من آثام. [عاموس 5/18-20].
أما
“يوم الرب” بالمعنى الذي قصده الأنبياء من وعيد وانتقام من العصاة، سواء من اليهود
أو غيرهم، فهو موضع تهكم وسخرية لديهم حيث أطلقوا عليه اسم “أحَريت هَيَّاميم” أي
آخرة الأيام أو اليوم الآخر، ويقصدون به معنىً مختلفاً تماماً عن المعنى المتعارف
عليه عند المسيحيين والمسلمين الذين يؤمنون بالآخرة، فهو عندهم اليوم البعيد جداً
الذي لن يأتي مما اضطر نبيهم حزقيال إلى تقريعهم وتحذيرهم كما جاء في سفره [12/21
وما بعدها].
أرض الموتى كما تخيلها الرسام
جون مارتن في القرن الثامن عشر
كانت النصوص الإسرائيلية
القديمة تتحدث عن أرض الموتى (شيول)، وهي مكان أسطوري محايد يذهب إليه الموتى وغير
مرتبط بالثواب والعقاب أو البعث والحساب. ثم اختلف مفسرو التوراة وأحبار التلمود
في تفسير معنى “جهنم”، فقال البعض إنه “الوادي الملعون” الذي يُعاقب فيه المذنبون
داخل الزمان، ودون تحديد لمدى العقوبة، حيث قيل إن الآثمين من بني إسرائيل
سيُعاقَبون عاما واحدا ثم تباد أرواحهم، وقيل إنهم سيذهبون إلى الجنة بعد قضاء
فترة العقوبة، ورأى آخرون أن كل بني إسرائيل سيبعثون بعد الموت وينقذهم إبراهيم من
دخول جهنم، كما أنكر بعض الحاخامات وجود جهنم وقالوا إن أرواح الأشرار ستباد ولن
تخلد في العذاب، وفي العصر الحديث أسقط كثير من اليهود فكرة جهنم نهائيا، وما تزال
مفاهيم البعث والآخرة غامضة في فكرهم الديني. [موسوعة المسيري: 14/289].
وأما
قضية المسيح المنتظر فهي من أهم قضايا اليهود على الإطلاق، والمسيح أو الماشيَّح
أو المسيّا هو الممسوح بالزيت، وهو رجل من نسل داود سيأتي حسب زعمهم ليعيد دولة
اليهود في فلسطين ويقيم بناء الهيكل المهدم، وبواسطته سيحكم اليهود العالم.
وقد
زاد الحديث عنه بكثرة في مرحلة النفي، وفي كل مرحلة ضعف تعرضوا لها ازداد تعلقهم
بالمسيا الذي سيأتي ليخلصهم وينتقم لهم من العالم، وتكررت نبوءات الأنبياء بقدومه
حتى ملأت معظم أسفار العهد القديم والتلمود البابلي خاصة.
ولا بد من علامات تسبق ظهور الماشيح، فيقولون إنه لن
يظهر إلا بعد تجمع اليهود من الشتات في الأرض المقدسة، وتجمع الثروة في أيدي اليهود
وسيطرتهم على العالم اقتصادياً بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة، كما أنه لا
يظهر إلا بعد قيام حرب عالمية رهيبة يهلك فيها ثلثا سكان العالم ويؤمن به الثلث
الباقي، وتسمى هذه الحرب عندهم “حرب التنين” وهي التي يطلق عليها المسيحيون
المتصهينون معركة “هرمجدون” [انظر مقال المسيحية
المتصهينة]، فيظهر الماشيح
عقبها وتدين له شعوب الأرض كافة بالخضوع.
كما لا
بد أن يسبق ظهوره هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، ويزعم التلمود أنه
بظهوره ستعم البركة والخير والعدل الأرض ويصبح اليهود سادة البشر. واختلف
الحاخامات في مدة بقائه فمنهم من جعلها أربعين سنة، وقال بعضهم إنها سبعون سنة،
وزعم آخرون أنها آلاف السنين.
ومن
أشهر الشخصيات المترتبة على تعلقهم بفكرة المسيح المنتظر وأشدها ارتباطاً به هي
شخصية النبي إلياس الذي يسميه اليهود (إلياهو)، وأخباره كثيرة مشهورة في سفر
الملوك الأول وكان معاصراً للملك آخاب في مملكة إسرائيل -عاصمتها السامرة- الذي
عبد بعل إرضاء لزوجته الصيدونية الوثنية، وكانت له مواقف عديدة في مواجهة الملك
وقومه الذين انحرفوا عن عبادة الله وشاع فيهم الفساد حتى رُفع إلى السماء في مركبة
نارية كما يذكر العهد القديم.
ودوره
الأهم عندهم يتمثل في عودته قبل ظهور الماشيح مبشراً به، كما يقولون إنه ينزل من
حين إلى حين إلى هذه الدنيا ليطمئن على اليهود وإقامتهم لشعائرهم، لذلك اقتضت
تقاليد عيد الفصح عندهم تخصيص كأس نبيذ ومكان فارغ على مائدة الفصح في كل بيت
للنبي إلياهو لعله يحضر الاحتفال كما تصوره قصصهم الشعبية للأطفال كشخصية مماثلة
لشخصية “بابا نويل” أو “سانتا كروز” عن المسيحيين.
ويسجل التاريخ
ظهور كثير من اليهود الذين ادعى كل منهم أنه المسيح المنتظر، ومنهم داود الرائي
(حوالي سنة 1163م) في العراق زمن الخلافة العباسية، الذي استفاد من علوم المسلمين
المزدهرة في عصره وأتقن التنجيم والسحر ودعا للذهاب إلى القدس وانتزاعها من يد
المسلمين وإعلان حكم يهودي فيها وأنه المسيح المخلص لليهود، ومن أشهرهم في العصر
الحديث شبتاي صِبي (زيفي) الذي عاش في الدولة العثمانية حوالي عام 1647م، وقام
بدور أساسي في نشوء ما عرف بعد ذلك بيهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا
اليهودية، وكانوا العامل الأبرز في إسقاط الخلافة الإسلامية فيما بعد سنة 1908م.
بالرغم من إنكار الكثير من اليهود المعاصرين، فإن هناك
أدلة تاريخية كثيرة على أن الإسرائيليين القدامى تقربوا إلى الإله الكنعاني
“مولوخ”، والذي يُرجح أنه تجسيد للشيطان، عن طريق التضحية بالأطفال، وما زال البعض
يمارسون هذه الطقوس السرية في العصر الحديث.
نصوص تأمر بالعنف في العهد القديم:
“فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف
وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق
بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة” [سفر التثنية 18: 28].
“حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها
إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير
ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى
يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في
المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك” [سفر
التثنية 20: 10- 15].
“فالآن أقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل
امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها” [سفر العدد 31: 17].
“فالآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له
ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا” [سفر
صموئيل الأول 15: 3].
“كما أثكل سيفك النساء كذلك تُثكل أمك بين
النساء” [سفر صموئيل الأول 15: 33].
“طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة”
[سفر المزامير 137: 9].
“ليكن بنوه أيتاماً وامرأته أرملة، ليته
بنوه يتماناً ويستعطوا ويلتمسوا خبزاً من خربهم” [سفر المزامير 109: 10- 11].
“تجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها،
بالسيف يسقطون، تحطم أطفالهم والحوامل تشقّ” [سفر يوشع 13: 16].
“وأطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم فيأكلون كل واحد لحم صاحبه في
الحصار والضيق الذي يضايقهم به أعداؤهم” [سفر إرميا 19: 9].
الشريعة اليهودية
تعد الوصايا العشر التي وردت في
سفر الخروج عصب الشريعة الموسوية، وقد تكررت في سفر التثنية للتأكيد على أهميتها
وجاء فيها: ثم تكلم الله بجميع هذا الكلام قائلاً:
·
أنا
الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمام وجهي.
·
لا
تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة،… لا تسجد لها ولا تعبدها لأني أنا الرب إلهك
إله غيور أتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من أعدائي، وأصنع
إحساناً إلى أولف من أحبائي وحافظي وصاياي.
·
لا
تحلف باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من ينطق باسمه باطلاً.
·
اذكر
يوم السبت لتقدسه في ستة أيام تعمل وتنجز كل أعمالك واليوم السابع سبت للرب إلهك…
لأن الرب خلق السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها في ستة أيام، وفي اليوم السابع
استراح ولذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه.
·
أكرم
أباك وأمك كيي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك.
·
لا
تقتل.
·
لا تزن.
·
لا
تسرق.
·
لا
تشهد على قريبك شهادة زور.
·
لا
تشتهِ بيت قريبك، لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا
شيئاً مما لقريبك.
عرس يهودي في أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر
كما
تتصف الشريعة اليهودية بأحكام تميزها عن غيرها من الشرائع، ففي الزواج مثلاً يعد
بقاء اليهودي في العزوبة أمراً منافياً للدين، لأنه يتسبب في أن يتخلى الرب عن
شعبه إسرائيل، ويحرم الزواج بين اليهود وغيرهم الذين يسمون في كتب الشريعة عندهم
كفاراً أو (الغوييم) أي الأمم الأخرى أو الأغيار، ويستوي في ذلك المسلمون
والمسيحيون والوثنيون، ومنهم من تشدد فأكد على ضرورة وحدة المذهب أيضاً، والأولاد
الناتجون عن زواج مخالف هم أولاد زنا، ويصح عندهم أن يعقد بين اثنين كان أحدهما
أجنبياً ثم اعتنق الدين لكن أولادهما لا يصح أن يكون منهم كهنة في إسرائيل تأكيداً
للنزعة العنصرية التي تصبغ أكثر شرائعهم الفقهية. ويجوز للإسرائيلي الزواج من ابنة
أخته أو ابنة أخيه ولكن العكس محرم فلا يحل للمرأة الزواج من ابن أختها أو ابن
أخيها، ثم حرم كثير من أحبارهم الزواج ببنت الأخ. كما أن تعدد الزوجات كان جائزاً
شرعاً ولم يرد نص بتحريمه أو تحديد حدٍّ أقصى له، وكانت عادة اليهود باتخاذ أكثر
من زوجة إلى أن أفتى الحاخام جرشوم بن يهودا الفرنسي (توفي عام 1040م) بتحريم تعدد
الزوجات، وذلك نتيجة ما لاقاه يهود أوروبا في العصور الوسطى من اضطهاد واحتقار
لأسباب منها تعدد الزوجات المحرم عند المسيحيين، لكن فتواه لم تطبق واستمر التعدد
سراً وعلناً لاسيما في بلدان آسيا وأفريقيا.
عرس تقليدي لابن أحد الحاخامات
ومن
خصائص الشريعة اليهودية مسألة اليِبُّوم، وهي أرملة اليهودي الذي مات ولم ينجب
فيجب عندئذ تزويجها لأخيه الأعزب، فإذا أنجب منها فإن المولود لا يحمل اسمه بل اسم
أخيه الميت وينسب إليه، وإذا امتنع أخو المتوفى عن هذا الزواج فإنه يشهر به ويخلع
من المجتمع الإسرائيلي.
كذلك
تهتم الشريعة اليهودية بالابن البكر فهو خليفة أبيه في السلطة والثروة، وكثيراً ما
كانت تشتعل المنافسات بين الإخوة الصغار وأخيهم الأكبر بسبب هذا وتنسج المؤامرات،
وأوضح الأمثلة قصة يعقوب وتآمره مع أمه على انتزاع حق البكورية من أخيه عيسو
المذكورة في سفر التكوين. والعبارة التالية توضح الغاية من هذا التشريع، فقد نص بن
شمعون في قانونه على أن: “البكر من الجارية أو الأجنبية لا يمنع البكورة من
الإسرائيلية” والمقصود نزع حق النسبة وميراث النبوة من إسماعيل جد العرب من أبيه
إبراهيم وإثباتها لإسحاق ونسله فقط، فمع أن إسماعيل وُلد قبل أخيه إسحاق إلا أنه
ابن هاجر الجارية المصرية، أما إسحاق المتأخر في الولادة فكان سليل الزوجة سارة
التي توصف بأنها عبرية، وكان لا بد من هذا التشريع لتستقيم نظريتهم في شعب الله
المختار.
أما
بالنسبة للأموال والممتلكات فنجد أن الرِّبا محرم بين اليهود فقط، وعقوبة المخالف
لذلك التكفير والخلع، بينما يباح الرِّبا إذا أقرض اليهودي لغير اليهودي. لكن
الأحبار تحايلوا على هذا التشريع فيما بينهم أيضاً.
وباستعراض
تقاليد اليهود في الطعام والشراب، نجد أنه يحلُّون من الحيوانات كل ما له ظلف
مشقوق وليست له أنياب ويأكل العشب ويجتر، وبذلك يحرم عليهم الخيل والبغال والحمير
وكذلك الجمل، والخنزير لأنه ذو ناب والسباع بأنواعها كما يحرم عليهم الأرنب وما
يتصل به من قوارض آكلة للعشب لأنها ذات أظافر لا أظلاف مشقوقة، كما يحرم من الطيور
كل ما له منقار معقوف أو مخلب أو كان ممن يأكل الرمم، وتذبح الحيوانات الصالحة
للأكل من منحرها بالطريقة الشرعية وبعد تلاوة بركة تتضمن اسم الرب. أما صيد البحر
فكله حرام عليهم باستثناء السمك الذي له زعانف وعليه قشور فقط، كما أن الدم محرم
عليهم كتحريمه على المسلمين، ويحرم عليهم الجمع بين اللحم واللبن الحليب أو أي شيء
يمت له بصلة في طعام واحد، لذلك يحرم طبخ اللحوم في السمن والزبد بل تطبخ بزيوت
نباتية. كما يحرم أن يوضع اللحم في إناء كان قد وضع فيه لبن أو جبن من قبل.
ويولي
اليهود اهتماماً شديداً بأعيادهم الدينية لارتباطها بتعاليم التوراة من جهة
وبتاريخهم من جهة أخرى، وأكثر أعيادهم أهمية في توضيح عقيدتهم:
طقوس يوم السبت في لوحة من القرن الرابع عشر
1- السبت: هو العيد الأسبوعي لدى اليهود، ويبدأ من غروب يوم الجمعة إلى
غروب السبت، وأهم شعائره الكفُّ عن أي عمل في ذلك اليوم لأن الرب -كما زعم كتبة
سفر التكوين- استراح فيه بعد أن تعب من خلق السماوات والأرض، حيث يقول “وفرغ الله
في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع وبارك الله اليوم
السابع وقدسه” [التكوين: 2/ 3]. وتقدم ذبيحة في هذا اليوم لأن الرب “يحب اللحم
المشوي”، وتتشدد الشريعة اليهودية في أحكام السبت فمن يعمل عملاً فيه يحكم
بالإعدام، حيث زعم كتبة التوراة أن موسى قتل رجلاً لأنه احتطب يوم السبت [الخروج:
31/ 14- 15]، وتطبيق شعائره من أهم بنود الوصايا العشر التي جاء بها موسى كما
يقولون.
ومن
الأمور المحرمة في السبت استدعاء طبيب لمعاينة مريض مهما كانت حالته حرجة، وعدم
صنع طعام أو إيقاد نار، لذلك يصنع اليهود المتدينون طعامهم قبل غروب الجمعة،
والامتناع عن الكتابة والتعاقد والبيع والشراء والخروج من البيوت والقتال وإبرام
عقود الزواج. لكن الأحبار أبدعوا طرقاً للتحايل على هذه القيود، حيث ذكر القرآن
نموذجاً منها في قصة أصحاب السبت [البقرة: 65]، وللتحايل على مسألة الحروب والقتال
أباحوا للكاهن الأعلى أن يعلن الحرب على أساس أنها حرب دفاعية، ولهذا يسمى جيشهم
اليوم بجيش الدفاع الإسرائيلي.
2- عيد الفصح أو عيد العبور أو الفطير: هو أهم الأعياد
اليهودية على الإطلاق، فيحتفلون فيه بإخراجهم من مصر ونجاتهم من فرعون، والفصح
كلمة عبرية تعني العبور أي عبور البحر، وسمي عيد الفطير لأنهم لا يأكلون فيه إلا
فطيراً قبل أن يختمر كما فعل آباؤهم عند خروجهم من مصر حيث أخذوا معهم عجينهم قبل
أن يختمر، وتستمر الاحتفالات بهذا العيد سبعة أيام ويقع في شهر أبيب العبري
الموافق لشهر أبريل/نيسان، وعلى كل عائلة أن تذبح استعداداً له خروفاً وأن تلطخ
بدمه باب بيتها وعتبته وقائمتيه، وذلك إحياءً لما نص عليه سفر الخروج الذي جاء فيه
أن الرب عندما قرر إهلاك كل المصريين -وليس فرعون وجيشه فحسب- نزل وتمشى في أرض
مصر ليقتل كل المصريين وأبناءهم وبهائمهم، وحتى لا يخطئ الرب ويقتل أحداً من شعبه
المختار فقد جعل لهم علامة تيميز بيوتهم عن بيوت المصريين، فأمرهم بأن يذبح كل
منهم شاة ويغمس عتبة بيته بدمها كي يتعرف الرب على بيوتهم فلا يمسها بسوء، وفي هذا
التصور للإله يبدو واضحا أنه لا يعلم كل شيء.
شوارع تل أبيب فارغة في يوم الغفران (Roy Boshi)
3- يوم الغفران (يوم كِبُّور): هو يوم
من كل سنة حددته الشريعة اليهودية للتكفير عن الخطايا ويسمى يوم الكفارة، ويوافق
اليوم العاشر من الشهر السابع من السنة العبرية، وينبغي فيه الامتناع عن العمل، مع
الصوم والاعتراف بالخطايا وإقامة الطقوس المستمدة من التوراة، حيث ينص سفر
اللاويين على أن الرب أمر موسى وهارون بأن يحضرا تيسين، الأول يقدمانه للرب بعد أن
يتلو هارون على رأسه كل خطايا بني إسرائيل ويذبحانه ليحملها عنهم، ويلطخان بدمه
قدس الأقداس في خيمة الاجتماع وغطاء التابوت الذي فيه الرب، أما الثاني فيحمل
خطاياهم ويرسلونه في البرية، وهو مقدم لعزازيل (إبليس نفسه) في طقوس أقرب ما تكون
من عبادة الشيطان وتقديم القرابين له، ما يؤكد تسلل عقيدة ثنوية (ثنائية) الآلهة
لدى اليهود، انطلاقا من مفهوم ازدواجية الخير والشر في العالم. وبما أن ذنوب الشعب
المختار كلها تُكفّر في هذا اليوم فقد أصبح لدى البعض يوماً لارتكاب جميع الموبقات
ونكث العهود، بل وإنكار الحقوق والديون والتحلل من الالتزامات، وبعد انتهاء الطقوس
تذهب كل الذبائح والقرابين إلى بيت الكاهن.
4- عيد الفوريم أو البوريم أو عيد المساخر: له ارتباط وثيق بسفر
أستير الذي يحكي قصة غانية فاتنة من بي إسرائيل اسمها أستير نجحت في الوصول إلى
قلب الملك الفارسي أحشويروش أو قورش الأول (الذي حكم بلاد فارس من 485 إلى 465 ق.
م) بعد أن علمت أن وزيره هامان يزمع استصدار أمر من الملك بإعدام طائفة من اليهود
في مملكته لجرائمهم، فدبرت مكيدة بمساعدة عمها مردخاي بن يائير، وبعد أن أغوت الملك
وأسكرته اتهمت هامان بأنه يتآمر عليه، فصدقها وأعدم هامان وأولاده وجنوده، وجعل
عمها أحد وزرائه وقرب اليهود، وعندما تولى ابنه (ربيب أستير) العرش وحطم الدولة
البابلية استصدرت أمراً بإعادتهم إلى فلسطين. وكلمة “بوريم” الفارسية تعني القرعة،
حيث كان هامان قد أجرى قرعة لتحديد اليوم الذي سينفذ فيه الإعدام، فوقعت القرعة
على يوم 13 آذار قبل أن تنقلب الأمور عليه ويقتل. وكتب أحبار اليهود سفرا كاملا
باسمها في العهد القديم، وما زالوا يتعبدون بتلاوة هذا السفر مع أنه يتضمن قصة
إغوائها للملك، ويعتبرونها من أبطال إسرائيل التي أنقذت شعبها. وفي الثالث عشر من
آذار من كل سنة يحتفلون بهذه المناسبة بالإكثار من شرب الخمور والفجور، ويلبسون
الأقنعة والملابس التنكرية في أجواء احتفالية (كرنفالية)، فاشتهر هذا العيد -وخاصة
لدى المؤرخين المسلمين الذين عاش اليهود بينهم- باسم “عيد المسخرة أو المساخر”.
أشهر الفرق اليهودية:
ينقسم جمهور اليهود عرقيا إلى
طائفتين كبيرتين هما:
أولاً- الإشكناز: هم من سلالات شعوب
“الخزر” التي استوطنت حوض نهر قزوين وشمال أوربا وشرقها، حيث تخلوا عن الوثنية
واعتنقوا اليهودية في القرن التاسع الميلادي، أي بعد ظهور الإسلام أيضا، فهم ليسوا
من بني إسرائيل ولا يمتون إليهم بصلة، ومع ذلك فهم يشكلون اليوم غالبية يهود
العالم الذين يطالبون بعودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة.
كانت
كلمة “إشكناز” تدل في العصور الوسطى على الأراضي الأوربية التي يسكنها الجنس
الجرماني ثم أصبحت تدل على ألمانيا، وكذلك شمال فرنسا وشرقها والنمسا وبولونيا
وسائر أوربا الشرقية ودول الاتحاد السوفييتي السابق. ونتيجة البعد الجغرافي عن
فلسطين لم يستخدم الإشكناز اللغة العبرية، فحلّت محلها رطانة خاصة بحارات اليهود
(غيتوهات) أساسها لهجة ألمانية قديمة ممزوجة بألفاظ عبرية، ومستقاة من المصطلح
الديني عند اليهود، فلما عادوا للاهتمام بالعبرية في العصر الحديث ظهرت بينهم لهجة
خاصة محرفة، ولهم طقوس خاصة في الأعياد وبعض التقاليد المختلفة في المأكل والمشرب
والملبس، وذلك بتأثير الأمم التي عاشوا في كنفها والمناخ البارد الذي اعتادوا عليه
قروناً، ومن الإشكناز خرج أقطاب الصهيونية المعاصرة في بدايات القرن العشرين
الميلادي.
ثانياً- السفارد (سفارديم): هم اليهود الذين
استقروا في حوض البحر الأبيض المتوسط المتحدرون من يهود شبه جزيرة إيبيريا
(إسبانيا والبرتغال)، فبعد دخول المسلمين إلى الأندلس تمتع اليهود هناك بحرّية
دينية وثقافية واجتماعية كبيرة مما سمح لهم بالمحافظة على استعادة عبريتهم التي
فقدوها لقرون، وعندما تعرض اليهود مع المسلمين للاضطهاد في محاكم التفتيش
الكاثوليكية بعد سقوط الأندلس عام 1492م، هاجر عدد كبير منهم إلى فرنسا وإنجلترا
وإيطاليا واليونان وتركيا وأطلق عليهم اسم سفارديم. ومع تأسيس الكيان الصهيوني نزح
معظمهم إلى هناك وشكلوا أغلبية السكان، لا سيما وأنهم كانوا يحافظون على اللغة
العبرية التي أصبحت اللغة الرسمية للدولة الناشئة، لكن قادة الصهيونية من الإشكناز
سارعوا إلى الضغط على الاتحاد السوفييتي لترحيل ملايين اليهود الإشكناز كي يشكلوا
غالبية سكان إسرائيل ويطبعوا الدولة بطابعها الغربي العنصري.
تشير دراسات مختلفة إلى أن
اليهود الإشكناز يمثلون 83.33% من مجموع اليهود في العالم، أما السفارديم فنسبتهم
حوالي 5.3%، بينما تصل نسبة يهود العالم الإسلامي والشرق إلى 11.39% من مجموع
اليهود في العالم والبالغ 13.2 مليوناً.
ويعتبر
الكثيرون اليوم أن الإشكناز هم اليهود الغربيون وأن السفارديم هم الشرقيون، وهذا
ليس صحيحا، فهناك الكثير من السفارديم اليوم في دول أوربا الغربية، كما ينبغي
التمييز بين السفارديم واليهود الشرقيين (المزراحيين)، فمصطلح “اليهود الشرقيين”
كان يُطلَق على بني إسرائيل الذين غادروا أورشليم بعد هدمها إلى العراق وإيران
وأفغانستان والجزيرة العربية وشمال أفريقيا وجورجيا.
مجموعة من نساء الفلاشا عند حائط البرقاق بالقدس
(سبوتنيك)
ومن
الصعب أيضا الإقرار بأن كل المزراحيين ينحدرون من سلالة بني إسرائيل، فبالرغم من
حرص اليهود على نقاء عرقهم إلا أن الكثير منهم تزوج وصاهر أعراقا أخرى في المشرق
العربي والإسلامي، وهناك سلالات يهودية اليوم في الهند، وكذلك سلالة أخرى في
الحبشة (الفلاشا).
ويجدر
بالذكر أن يهود المشرق يختلفون عن السفارديم بخلفياتهم الثقافية والتاريخية مع
أنهم يتبعون النهج السفاردي في العبادة.
وتتسم
العلاقة بين الإشكناز الغربيين والسفرديم الشرقيين بتوتر شديد وصراع دائم في
الكيان الصهيوني بسبب التمييز العنصري، إذ يعتبر الإشكناز أنفسهم أعلى رتبة من
الآخرين، ويحتكرون لأنفسهم أهم مناصب السياسة والامتيازات الاقتصادية، مما يولد
أحقاداً بين الطرفين.
وإلى
جانب التصنيفات العرقية السابقة، والتي تتبعها فوارق مذهبية وثقافية أيضا، فهناك
فرق أخرى انبثقت عن التطور المستمر في الفكر الديني اليهودي، وقد عاشت بعضها لمدة
قد تطول أو تقصر بحسب الأحوال والملابسات، بينما اندثر أكثرها، ونذكر من هذه الفرق
ما يلي:
السامريون
1- السامريون: هي فرقة صغيرة لا يزيد عدد أبنائها عن المئات، تعيش بجوار
مدينة نابلس الفلسطينية التي قامت على أنقاض مدينة السامرة التي ينتسبون إليها،
ويزعمون أنهم البقية الباقية على الدين الصحيح، ولا يؤمنون بنبوة الأنبياء الذين
جاءت أسفارهم بعد توراة موسى في العهد القديم ويعدونها من صنع البشر باستثناء سفر
يوشع بن نون، فيرفضون التلمود وغيره من كتابات الأحبار. ولهم نسختهم الخاصة من التوراة
التي تختلف اختلافاً محسوساً عن التوراة الشائعة، ويقدسون جبل جرزيم قرب نابلس
ويسمونه جبل الطور تيمناً بالطور الذي كلم الله عليه موسى، ويعيشون في عزلة عن
بقية اليهود، وينفون عن عامة اليهود الانتساب إلى إسرائيل أو الإيمان بإله إسرائيل.
2- الفريسيون: هم طائفة علماء الشريعة (الأحبار) قديماً الذين كانت لهم
الكلمة العليا في توجيه المجتمع اليهودي على عهد المسيح، كما كانوا من ألدّ خصومه
وأكثرهم تعصباً، وامتازوا آنذاك بمنزلتهم عند الولاة الرومان. واسمهم مشتقٌ من
كلمة “فروشيم” التي تعني “المفروزون” أي الذين امتازوا على الجمهور وعزلوا أنفسهم
عنهم وأصبحوا لعلمهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة الصفوة المختارة، ويعتبرون بقية
اليهود من “عوام الأرض”. وإذا كان اليهود عامة يرون أنفسهم شعب الله المختار فإن
الفريسيين عدّوا أنفسهم “خاصة الخاصة”.
رسم تخيلي لبولس
والفريسيون
هم الذين وضعوا التلمود وتعاليمه التي تقرر “أن مخافة الحاخامات هي مخافة الله،
وأن أقوالهم أفضل من أقوال الأنبياء، وتعاليمهم لا يمكن نقضها ولا تغييرها ولو
بأمر الله تعالى نفسه”. واشتهروا بوضع الحيل للتخلص من قوانين الشريعة التي كانوا
يتظاهرون بالتقيد بها، لذا ناصبهم المسيح عيسى بن مريم وابن خالته يحيى بن زكريا
عليهما السلام العداء، وامتلأ الإنجيل -الذي أنزل على عيسى- بذمِّهم وفضح نفاقهم
حتى أصبحت كلمة “فريسي” تدل على العار.
وكان بولس -وهو أول من بدَّل دين المسيح كما سنرى في
مقال المسيحية– يهودياً
فريسياً، إلا أن تغلغل اليهود التدريجي في الثقافة الغربية المعاصرة بلغ من القوة
أن يقنع المسيحيين البروتستانت -ولاحقا الكاثوليك- بتبرئة اليهود مما ذمهم به
المسيح نفسه والنبي يحيى (يوحنا المعمدان)، مع أن اليهود هم الذين اتهموا السيدة
مريم بالبهتان وقالوا في المسيح إنه ابن زنا [انظر مقال المسيحية
المتصهينة].
3- القنّاؤون: كلمة قنّاء العبرية تعني الغيور أو صاحب الحميّة، والمقصود هو
الحميّة الدينية، وتشبه هذه الفرقة بعقائدها وطقوسها الفريسيين إلا أنها أشد
تعصباً منهم، فأتباعها يتهمون الفريسيين بالجبن والخيانة لأنهم رضوا بحكم الرومان
وتعاونوا معهم فلا يُقبل أن يحكم وثني يهودياً. وقد ظهروا بعد هزيمة المكابيين على
يد الرومان وكانوا يقومون بعمليات اغتيال للرومان واليهود المتعاملين معهم، ما دفع
السلطات الرومانية الحاكمة إلى قمعهم بقوة، الأمر الذي رد عليه القناؤون بمزيد من
التشدد وتشكيل الجماعات السرية.
وكان
القناؤون يقتلون كل من يخالف الشريعة اليهودية حتى أطلق عليهم الفريسيون اسم
“سيقارين” أي السفاح، وكانوا شديدي العداء للمسيح عليه السلام.
هرتزل
4- الصهيونية: إذا كانت كثير من الفرق اليهودية قد اندثرت وانتهى وجودها فإن
آثارها الفكرية امتدت في الحركات اليهودية المعاصرة التي تتشكل منها مجتمعات
اليهود اليوم، وأشهرها الحركة الصهيونية التي جمعت بين فكر الفريسيين وتعصب
القنائين وأساليبهم.
فالصهيونية
حركة سياسية عنصرية متطرفة ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين تحكم من خلالها
العالم كله، وقد اشتقت اسمها من جبل صهيون في القدس الذي تطمع إلى أن تشيد فيه
“هيكل سليمان” ليكون مركز مملكتها.
وإذا
عدّ معظم الباحثين في الصهيونية النمساوي اليهودي تيودور هرتزل (توفي 1904م)
الداعية الأول للفكر الصهيوني فإن جذورها الفكرية والتاريخية تعود إلى ثورة
المكابيين ومعظم الحركات اليهودية التي أُججت فيها الروح الدينية والقومية، فهي
تنظيم وتجديد للصهيونية القديمة.
تقوم
الصهيونية على تعاليم التوراة والتلمود، ومع ذلك يوجد من زعمائها من يوصف بالملحد،
وهي التي تقود ما يسمى بدولة إسرائيل وتخطط لها، كما أن الماسونية تتحرك بتعاليمها
وتوجيهاتها، ويخضع لها الكثير من زعماء العالم ومفكريه، ولها مئات الجمعيات في
أوروبا وأمريكا في مختلف المجالات، والتي تبدو متناقضة في الظاهر لكنها في الواقع
تعمل كلها لمصلحة اليهودية العالمية.
واليهود
اليوم ينقسمون إلى فرق على أساس انتمائهم الديني: فمنهم المحافظون والإصلاحيون
والأرذثوكس، إضافة إلى معتنقي فكر القبالاه والحسيدية.
وهناك من يبالغ في قوة اليهود مبالغة كبيرة جداً، كما
نجد آخرين يقللون من شأنهم ودورهم في صنع المؤامرات، والرأيان يحتاجان إلى تقويم
وتوجيه لتحديد مواطن قوة اليهود ومدى تأثيرهم في العالم وكشف خفايا مؤامراتهم، على
أن استقراء الواقع يدل على أن اليهود الآن يحيون فترة علوٍ استثنائية تحتاج من
المهتمين إلى الدراسة والبحث [انظر خاتمة مقال الماسونية].